الإسراء والمعراج.. والمستقبل

> علي بن عبدالله الضمبري:

> إن ذكريات الاسلام أحداث إيمانية ومحطات روحانية تستنهض الهمم، وتثبت العزائم، وتثور على الهزائم، وتقوّي المواقف، وتحدد المواقع لـ?{?يزداد الذين آمنوا إيمانا?}? المدثر 31، ذلك لأن ذكريات الإسلام هي استعادة لتاريخ الدعوة بمراحلها ومواقفها وأحداثها ودروسها وعبرها وعظاتها، إنها تذكير بالماضي ?{?وذكّرهم بأيام الله?}? إبراهيم 5، من خلال التفكير في الحاضر، والأمة الحية اليقظة الواعية الواعدة هي الأمة التي تتذكر تاريخها، وتستوعب دروسها، وتستلهم المعاني والمغازي والدلالات والمضامين لهذا التاريخ الحافل بالإيمان واليقين، والصبر والجهاد، والعبادة والصمود، والعمل والثبات، والتوحيد والوحدة، والعزة والكرامة، والنبل والبطولة، والشرف والشهامة.

زعيمنا وعظيمنا

إن معجزة الإسراء والمعراج تصور- بشكل مضيء وضيء وبملامح بهية ندية - تلك المكانة السامية السامقة للنبي الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن خلال مكانته تبدو مكانة أمته التي هي ?{?خير أمّة أُخرجت للناس?}? آل عمران 110. وحينما يحتفل المسلمون بهذه المعجزة السماوية، وبهذا العطاء الإلهي فإنهم يحتفلون بذكرى (يوم الصلاة) التي فرضت في تلك الليلة البهيجة الأريجة، ويحتفلون بإعطاء (خواتيم سورة البقرة) وغيرها كثير ومثير وثري وغزير من الكرم الرباني لهذا النبي العظيم الذي قال الله له ?{?ولسوف يعطيك ربُّك فترضى?}? الضحى 5.. وقال له «إنا سوف نرضيك في أمّتك ولا نسوؤك» رواه مسلم 78/3. ورسول الله كان يتذكر يوم مولده كل أسبوع فيصومه احتفالا به، ويقول: «ذلك يوم ولدت فيه فأحب أن يرفع فيه عملي وأنا صائم» رواه مسلم والترمذي. ولعظمة هذا اليوم كان هو نفسه يوم ميلاده، ومبعثه، وهجرته، ومعراجه، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، بل هو - وفي كل أسبوع - مع يوم الخميس تفتح فيه أبواب الجنة وتعرض فيه الأعمال على الله.

ورسول الله أمر بصيام يوم نجاة سيدنا موسى عليه السلام، وغرق فرعون وهلاك نظامه الملكي النتن العفن، وزوال استبداده الغاشم الظالم.. فهو يصومه احتفالا بالذكرى، وشكرا لله جل وعلا، ولأنه أحق بموسى من اليهود كما قال في حديثه الصحيح.

بل لا أعدو الحقيقة لو قلت: إن صيام رمضان هو احتفال واحتفاء بذكرى نزول القرآن، ومن هنا نقول ليس المسلمون مخطئين لو لم يقلدوا الفتاوى التي تحرم وتنهى عن الاحتفال بذكريات الإسلام، وتسكت وتصمت عن الاحتفال بذكريات (عيد الجلوس) و(يوم التتويج) و(انتخاب فلان أو علان).

إن الإسراء من مكة إلى القدس هو «يوم التتويج المحمدي» حينما توج الأنبياء عليهم السلام نبينا وزعيمنا وعظيمنا سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتاج النبوة الخاتمة والإمامة العظمى إذ قدموه - في بيت المقدس - ليصلي بهم إماما «ومما يدل على ذلك أنه قال: فلما حانت الصلاة أممتُهم. ولم يحن وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر، فتقدمهم إماما بهم عن أمر جبريل، فيما يرويه عن ربه عز وجل، فاستفاد بعضهم من هذا أن الإمام الأعظم يقدم في الإمامة على رب المنزل، حيث كان بيت المقدس محلتهم ودار إقامتهم» (راجع السيرة النبوية لابن كثير، تحقيق مصطفى عبدالواحد، طبع دار المعرفة بيروت 1403هـ - 1983م ص 102).

وذكر الشيخ محمد بن إبراهيم النعماني في كتابه (السراج الوهاج في الإسراء والمعراج) أن الأنبياء قدموا خاتمهم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في بيت المقدس إماما عليهم، لأنهم أيضا سوف يقدمونه لمقام الشفاعة العظمى يوم القيامة، وكيف لا يكون ذلك كذلك وقد أخذ الله العهد منهم أجمعين بأن ينصروه لأنه «أول المسلمين» بشهادة الله في قرآنه المقدس (راجع الآيتين 14 و 163 من سورة الأنعام والآية 12 من سورة الزمر).. ولهذه الأوّلية أخذ الله ميثاق النبيين أجمعين بأن يؤمنوا به وينصروه، فأقرّوا ورضوا وأذعنوا، وأشهدوا الله على ذلك ?{?وإذ أخذ اللهُ ميثاق النبيّين لما آتيتُكُم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لَتؤمِنُنّ به وَلَتنصُرُنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري. قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين?}? آل عمران 81 (راجع تفسير هذه الآية في (فتح القدير) للشوكاني وعند ابن كثير والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 126-124/4 وفي ظلال القرآن للشهيد سيد قطب 420/1).

واستفاد مفسرون معاصرون منهم الدكتور صلاح عبدالفتاح الخالدي - في كتابه (حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية) صفحة 114 - من معجزة الإسراء والمعراج فوائد منها قوله «لقد اختار الله الحكيم المسجد الاقصى ليكون نهاية لرحلة الإسراء، وبداية لرحلة المعراج، وذلك ليربط بين الأرض المباركة في فلسطين وبين خاتم الأنبياء والمرسلين باعتباره هو وارث الأنبياء السابقين لهذه الأرض - ومنهم أنبياء بني إسرائيل - وباعتبار أن دينه الإسلام هو وارث الأديان السابقة على هذه الارض المباركة - ومنها اليهودية والنصرانية - ولهذا جمع الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والتقى بهم في المسجد الأقصى، وصلى بهم إماما. فكان اجتماعه بهم وإمامته لهم مؤتمرا إيمانيا حافلا شهد فيه (التسلّم والتسليم) حيث سلّم الانبياء السابقون الأمانة والخلافة والوراثة والعهد والمسؤولية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولأمته من بعده، حتى قيام الساعة».

رؤى مستقبلية

لعل من أبدع وأروع خصائص الإسلام العزيز أن رؤاه وأهدافه وشعائره وشرائعه وغاياته ووسائله لا تتقوقع في ذكريات الماضي ولا تخضع أو تنكسر لضغوطات الحاضر بل تضيء وتنير ما حولها لكي يمتد ألقها المتوهج حتى يشمل آفاق المستقبل المنظور في الدنيا وتنداح أنوارها وبركاتها وآثارها لتحقق سعادة الإنسان في المستقبل البعيد الغائب عن العين متمثلا في عالم الغيب، لذلك كانت فكرة (العاقبة) و(المآل) و(المصير) و(المنقلب) تندرج كلها في إطار مفهوم (الرؤية المستقبلية) التي تقوم على تحليل أحداث الماضي لاكتساب الخبرة، وتعليل وقائع الحاضر لتعميق الخبرة وصولا إلى استشراف المستقبل ?{?وَلَتعلَمُنَّ نبَأهُ بعد حين?}? ص 88. ويمكن لنا أن نتدبر ونتفكر- كما أمرنا القرآن - في اختيار أرض فلسطين وتحديدا المسجد الأقصى ليكون (نهاية) الإسراء، و(بداية) المعراج ونقطة وصل بين عالمي الغيب والشهادة للاعتبارات الآتية (مع وجوب مراجعة كتب أشراط الساعة وعلامات القيامة):

أولا: على هذه الأرض المباركة سوف يقصم الله اليهود ويدمر كيانهم بعد أن جاء بهم «لفيفا» على حد تعبير القرآن.

ثانيا: عليها سيتم القضاء على فتنة (المسيح الدجال)، الذي حذر منه كل الأنبياء، وكان النبي الأعظم يستعيذ من فتنته في كل صلاة.

ثالثا: في تلك البقاع المباركة سيبيد الله جحافل (يأجوج ومأجوج) لأنهم ?{?مفسدون في الأرض?}? الكهف 94.

رابعا: قريبا منها - في دمشق - سينزل عيسى المسيح عليه السلام وسيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويصلي خلف الإمام المهدي.

خامسا: في فلسطين (نخل بيسان) و(بحيرة طبرية) و(عين زُغَر)، التي وردت أسماؤها في حديث (الجساسة) في صحيح مسلم (كتاب الفتن).

سادسا: على ثراها الطاهر المقدس «فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها (الغوطة) فيها مدينة (دمشق) خير منازل المسلمين يومئذ» رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم.لقد احتوت معجزة الإسراء والمعراج على رصيد عقدي وتاريخي وحضاري ضخم فخم، وامتازت بخصوبة مدلولاتها ومغازيها ومعانيها التي قدمت للدارسين المحققين والمدققين زادا متجددا مكنهم من استكناه واستلهام الأبعاد المستقبلية التي تتمتع بها رسالة الإسلام الحضارية وما تحمله من إشارات وبشارات مطمئنة عن التغلب على العقبات التي سوف تعترض مسيرة الدعوة الإسلامية خصوصا وأنها حدثت قبل الهجرة النبوية بنحو عام كامل، أي: قبيل انتقال الإسلام من الدعوة إلى الدولة، وقبيل مواجهة كيد اليهود في المدينة، وتهيئة الأمة - دائماً وأبداً حاضراً ومستقبلاً- بكل عوامل الحذر والحيطة واليقظة لتكون في أتم درجات الاستعداد للحسم والمواجهة والمنازلة والمقاومة بجيل محمدي قرآني تقي نقي يقول له الحجر والشجر: «يا عبدالله، يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله» كما نطق بذلك من لا ينطق عن الهوى.. ?{?ويقولون متى هو قُل عسى أن يكون قريبا?}? الإسراء 51.

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد تعزّ فيه الصالحين من أوليائك، وتخذل فيه الفاسدين من أعدائك، وتنصر الحق وأهله، وتخذل الباطل وحزبه. آمين.

مدرس بكلية التربية - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى