من قلب أزمة المياه بطور الباحة «الأيام» تلتقط مشاهد ظمأ وأحاديث قلق ووضع مؤسسة مياه على شفا الانهيار

> «الأيام» علي الجبولي:

>
حتى سطح البوزة صار ساحة تهافت على الماء
حتى سطح البوزة صار ساحة تهافت على الماء
أزمة المياه في مديرية طور الباحة بمحافظة لحج لم تعد أزمة فحسب بل غدت فاجعة حقيقية تنتج يومياً معاناة ومشاهد مؤلمة وحكايات طريفة وغريبة تعرض مشاهدها دون توقف على شاشة المنطقة برمتها دون أن تلوح لها نهاية في غد منظور. في هذا الحديث المتناثر قامت «الأيام» برصد مباشر للمعاناة بالكلمة والصورة لمشاهد ظمأ وأحاديث قلق وحال فرع مؤسسة المياه الذي وصل إلى شفا الانهيار.. وهاكم خلاصة ما رصدت.

كارثة العطش في طور الباحة وما تنتجه من آلام لو حصلت في بلد غير هذا البلد لأعلنت حالة الطوارئ والاستنفار لمواجهتها لكن في بلد يتربع عليه مسؤولون آذانهم من طين وعجين تصبح الكتابة عن منجزات مدير وحدة إدارية صك وطنية، في حين الكتابة عن معاناة شعب عمالة أو ترف فائض يضيع الوقت والجهد دون أن يرف لها جفن فاسد. أزمة مياه تنتج يومياً مشاهد مؤلمة وحكايات مثيرة للطرافة والغرابة تضع المنطقة في عداد المناطق السياحية، ليس بآثارها أو جمال معالمها فهي عطل من هذا كله، ولكن بمؤهل سياحي غريب وعجيب.. مشاهد متنافرة فوق بئر ضخ أو براحة لا يهم نوع مائها، سائغاً، مراً، مالحاً، نظيفاً، ملوثاً، المهم (دبة) ماء فوق رأس امرأة أو (دبتين) على ظهر حمار أو برميل على متن سيارة.. جموع نساء بين رائحة ومغتدية ويحملن (دبات) الماء فوق رؤوسهن وعلى الاكتاف وفي الايدي .. مشاهد ازدحام ومنازلات نسائية فووق الآبار لا تقف، قوافل حمير لا تنقطع، أرتال سيارات حبلى ببراميل متنوعة وتوانك متهالكة، أطفال حفاة وأشباه عراة.. مشاهد ومظاهر مثيرة للغرابة، لا شك أنها تضفي على المنطقة مشاهد جذب سياحي فريدة ونادرة.

فيض من عنف المشاهد

في وضع كهذا وفي وطن يشبه هذا الوطن، يصعب رصد كل المتاعب ومشاهد البحث عن الماء بتنوعها المثير للحزن، الحيرة، الطرافة، الغرابة. غير أننا نكتفي بالتقاط أبرز الوقائع والحكايات لتكوين صورة عما انتجته أزمة المياه.حينما اشتد الزحام ذات مساء بين مئات الرادات (جالبات الماء) فوق بئر مزارعين، ولما تحول الزحام إلى قذف وشتائم استعانت إحداهن بقريباتها .. عراك يسفر عن شج رأس إحدى الورادات.. عند صلاة العشاء كان عراك الورادات قد استثار النعرة القبلية للقيام بهجوم على قرية الخصم برشقات الرصاص طالت المنازل وباغتت أهلها، ولم ينته الأمرعند هذا الحد، غداة الحادث رتل من حاملات (الدباب) يتهيأن للثار لبنت القبيلة، وتوتر يتسبب بتوقيف المضخة ومنع الماء عن الجميع تحاشياً للعنف.

أطفال لا يحلمون بطفولة آمنة أكثر من الحلم بتعبئة دباب الماء
أطفال لا يحلمون بطفولة آمنة أكثر من الحلم بتعبئة دباب الماء
ذات ظُهر حلمت بقيلولة قصيرة لكن تجمهراً في بيتنا حال دون تحقيقها «مافيش ماء، قم جيب ماء».. فوق بئر رجل خير بمنطقة معبق مديرية المقاطرة والدنيا ظهر- وليس غبش كما قال الشاعر- انتظرت دوري نحو ساعة. وقف بجانبي طقم أمن طور الباحة ظننت أن لديه مهمة أمنية خارج نطاق اختصاصه. قال وراد «الزير يملأ من البئر أم البئر تملأ من الزير؟»، «فوش ما كرر لكن ما فهمت»، وحينما رأيت خزانا صدئا (تانكي) على متن الطقم فهمت العبارة، ومعناها الدولة توفر الماء للمواطنين، أم المواطنون يوفرون الماء للدولة.

حينما كنت مشغولاً بتعريف طابعة الكمبيوتر ذات مساء دخل شاب مهرولاً، قال: تعال المستشفى شوف المنظر. يبدو أن تعب البحث عن الماء أضنى الطفل علي أحمد (7 سنوات) وحماره حتى ضاق كل منهما بصاحبه، وحينما وصلا السابعة ليلاً إلى البئر كان الحمار اكثر ضيقاً فسدد لوجهه رفسة عنيفة شجت جبينه البض، لم أفلح في توفير كاميرا لالتقاط صورة لوجه (علي) المضرج بالدماء والممرض (بخيت) يغرز خمسة خيوط في جبهته لترقيع الجلد الممزق في مشهد مثير للحزن والاسى.

الظمأ يعلّم الترشيد

شفاه مدينة طور الباحة غالباً ما تتحول إلى جافة كثغر قراها .. مرافق الدولة، مساجد، مطاعم، مشارب، لم تعد تعول على حصتها القليلة التي يوزعها فرع المياه مرة كل ثلاثة أيام، صار الجميع يتسابق نحو سيارات بيع الماء القادمة من بئر معبق. قبيل صلاة ظهر ذات يوم جمع من الناس يتجمهرون أمام مسجد المدينة بحثاً عن قطرات ماء تغرف من بركة آسنة لا يقبل عاقل بصلاحيتها للوضوء أو خلوها من الاضرار بجسد المستخدم، ومع ذلك تُوضئ منها وأقيمت الصلاة .

عند الساعة الثانية من ذات فجر سقطت زخات مطر في قريتنا اسالت مسارب المنازل فأحدثت ضوضاء غريبة مصحوبة بأضواء. ولما سألت عن الأمر أخبرت أن نساء القرية يملأن الماء من مسارب البيوت. قادني الفضول لرؤية المشهد الغريب الذي امتزجت فيه الطرافة بالأسى. تذكرت إرشادات الحفاظ على الماء التي تملأ الصحف والكتب المدرسية دون أن يحفل بها، أما اليوم فإن الظمأ يجبر على التقشف وترشيد الاستهلاك.

من أقوال المعذبين بالظمأ

خلال هذا الاستطلاع بحثنا عن مدير مياه طور الباحة لعله يهدئ روع المتعبين بالظمأ، ولو تسكينا كما اعتدنا على مسكنات السلطة، لكننا حينما وجدناه كانت حالته النفسية لا تسمح بالنقاش غداة عراك في مكتبه بينه وبين عضو مجلس محلي سببه اللا عدالة في توزيع الماء على القرى- أو هكذا زعم معتصمون- إضافة إلى انشغاله بالاستعداد للسفر، المدير طلع صنعاء، نزل عدن، راح الحوطة دون أن يكشف ما في جعبة أسفاره. موظفو الإدارة في وضع يشبه الذهول، العمل شبه معطل، الرواتب لثلاثة اشهر لم تصرف، لذا اكتفينا بنقل صور واقعية من أفواه المعذبين بالظمأ ومشاهد حية انتجتها أزمة الماء.فوق بئر تسمى (المنجارة) الخاصة بالمزارعين تتجمهر يومياً عشرات النسوة بدباتهن وعشرات الاطفال والطفلات خلف قوافل الحمير، وسائل نقل الماء الرئيسية من هذا البئر، التي أجمع كثير من المزارعين في احاديثهم على تراجع مائها بصورة كبيرة والاستنزاف لا يتوقف من الفجر حتى المغرب، وأن طعم الماء أصبح مراً .

طفولة في مشهد عذاب يومي لا يقلق الضمائر المتيبسة
طفولة في مشهد عذاب يومي لا يقلق الضمائر المتيبسة
زرافات من النساء يقطعن مسافات طويلة ذهاباً وإياباً بعضها تزيد عن 8 كيلومترات وفوق رؤوسهن دبات الماء، جموع أخرى تتزاحم، تتشاجر، تتشاتم دونما سبب سوى التعب والارهاق، تصبح التقاليد الاجتماعية ترفا ساذجا عندما تحول دون التقاط مشاهد البؤس والشقاء وحينما لا تتورع أصوات بليدة عن الاعتراض على تصوير مشاهد المعاناة والشقاء، إنه الموروث الاجتماعي الرجعي ترسخه تعبئة دينية ضالة ومضلة. أمطرتني عشرات الورادات بالاسئلة (لمو تصورونا.. لو تجيبوا الماء صوروا كما تشتوا.. لو نزفت هذه البير وين نروح؟ متى يوصلوا الماء من امرجاع؟.. تعبنا من اموريد رؤوسنا جرحت.. ليش الحكومة ما تعطيهم فلوس يجيبوا ديزل؟ أكثر من شهر والماء ما يصل عندنا) اسئلة لا تنتهي ولا تختلف بجوار بئر براحة أو في الطريق. اسئلة عفوية تثير الشفقة والقلق لا أحد بمقدوره الإجابة عليها.

يقول محمد علي قائد «تتحمل إدارة المياه كامل المسئولية في ما نعانيه من متاعب الماء، فهي تعرف أن الماء نضب وهناك آبار اسعافية في امرجاع أعلن عن انزال المناقصة وحتى اليوم لم يبدأ العمل، لأن ادارة المياه لا تتابع الجهات المختصة، لا مبرر لهذا التهاون والناس بلا ماء».

أما شريف أحمد صلاح فيقول «الماء لا يصل قريتنا سوى مرة واحدة في الشهر، مع ذلك نسدد قيمة الفاتورة وليس قيمة الماء الذي يرصده العداد، مضاف للفاتورة قسط من متخلفات وهمية قيدت في التسعينات اثناء انقطاع الماء. إدارة المياه وضعت برنامجا لتوزيع الماء، لكل قرية يوم واحد بعد 16 يوماً.

لكن عدالة التوزيع غابت، بعض المناطق يصلها خلال أسبوع أو اقل وبعضها لا يصلها أكثر من شهر. تضاريس المنطقة تساعد على إقامة الحواجز والسدود لتغذية مخزون الماء وعلى الدولة أن تسارع بإقامتها وسبق أن وضعت دراسات قبل سنوات وحتى اليوم لا نعرف اين ذهبت».

في حين يقول عدنان علي صلاح، رئيس فرع المؤتمر الشعبي العام بطور الباحة: «ازمة الماء كارثة لم نواجه مثلها من قبل، طالت الانسان والحيوان والخدمات. لا تقتصر الازمة على القرى الريفية ولكنها أصابت عاصمة المديرية. يتطلب الأمر معالجة جادة وسريعة وليس ترقيعا، هناك آبار اسعافية في الرجاع حفرت قبل عام ونزلت مناقصة المرحلة الاولى على أن يبدأ العمل من بداية يوليو، لكن لا نعرف من يقف وراء هذه المماطلة».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى