من مذكرات الطبيب البريطاني باتريك بيتراي الذي عمل في صنعاء في تلك الفترة .. نظرة على الأوضاع الصحية في مدينة صنعاء بين الأعوام 1937م و 1943م

> «الأيام» د. علي محمد سعيد الأكحلي:

>
بعد تخرجه في أدنبره ، التحق الدكتور باتريك بيتراي (1) Dr. Patrick Petrie بمستشفى بعثة كيث - فالكونر الطبية في الشيخ عثمان عام 1926م، خلفاً للدكتور جون يونج Dr. John Young الذي عمل في المستشفى نفسه منذ عام 1893م. وقد شاء القدر أن يصرف الدكتور باتريك بيتراي العشرين سنة المقبلة من حياته في جنوب غرب الجزيرة العربية، متضمنة ست سنوات تقريباً قضاها في صنعاء بين الأعوام 1937 و1943م . كانت أول زيارة للدكتور بيتراي لليمن الشمالي فى شهر ديسمبر من عام 1931م كعضو ضمن البعثة الطبية البريطانية التى أرسلتها سلطات عدن إلى مدينة تعز. ترأس البعثة العقيد إم .سي. ليك Lieut-Colonel M. C. Lake وهو أحد كبار المسؤولين في حكومة عدن. أرسلت البعثة بناء على طلب من محافظ محافظة تعز السيد علي الوزير ، حيث كانت زوجة ابنه (وهي بالمناسبة حفيدة الإمام يحيى) تعاني مرضاً خطيراً في الرأس. وقد أجريت لها عملية لإزالة ورم في الجمجمة ، ولكنها توفيت بعد ذلك بأسبوع. وكانت البعثة تضم إضافة إلى الدكتور بيتراي كلاً من الطبيبة إيفلين هارتلي من مستشفى عدن الأهلي في كريتر وممرضتين. قبل العودة إلى عدن ، زار بيتري قرية (التربة) بطلب من عامل الحجرية القاضي حسين الحلالي لعلاج مريض من أقربائه هناك. رغم أن البعثة سافرت إلى تعز عن طريق البحر وصولاً إلى ميناء المخاء ، إلاّ أنها قررت العودة عن طريق البر حيث سلكت طريق ماوية - الدرايجة - المسيمير - لحج فـعدن.

من ناحية أخرى وفي عام 1936م ، قام الدكتور بيتراي بمرافقة الكابتن باسيل سيجرCaptain Basil Seager، ضابط الحدود في حكومة عدن ، في زيارته التي قام بها إلى صنعاء. وخلال إقامته هناك ، عالج د. بيتراي المرضى المصابين بأمراض العيون التي كان متخصصاً فيها ، وهو التخصص الذي كان مفقوداً عند الأطباء الإيطاليين الذين كانوا يعملون في صنعاء. وقد أدهش عمله الإمام يحيى الذي قام بمفاتحة الكابتن سيجر بأنه يود توظيف اثنين من الأطباء البريطانيين للعمل في صنعاء ، يكون أحدهما سيدة (أنثى). وكان الخيار المناسب والواضح لهذه المهمة هو الدكتور بيتراي وزوجته إليانور Eleanor ، وهى أيضاً طبيبة مؤهلة ومتخصصة في القبالة. وقد تحصلت حكومة عدن على الإذن لهما إضافة إلى ممرضة هي الآنسة لوي كوويي Miss Louie Cowie وذلك من لجنة المهمات الخارجية التابعة لكنيسة أسكتلندا في ادنبره لإعارتهم من البعثة العاملة في الشيخ عثمان للعمل في صنعاء. وقد وصل الثلاثة إلى صنعاء في الثامن من مارس عام 1937م وتم منحهم منزلاًً مفروشاًً جزئياً في منطقة بير العزب، إحدى ضواحي المدينة حيث كان في الحديقة عدة مبان إضافية ، وقد عدل أحدها ليكون مستوصفاً وكذا تم تعديل منزل آخر ليكون مأوى للطاقم اليمني الذي رافقهم من عدن للعمل معهم في صنعاء. في الأسبوع الثالث من شهر يوليو1937م، افتتح الإمام يحيى رسمياً المستشفى الجديد (2). كان هناك نحو 170 سريراً ، ومن هذا العدد تم تخصيص 80 سريراً للجيش تحت رعايه اثنين من الأطباء السوريين الذين كانوا يعملون ضباطاً طبيين في الجيش و تخصيص 60 سريراً آخر لتكون تحت مسئولية وإشراف الأطباء الإيطاليين، وحوّل للفريق البريطاني 30 سريراً فقط، وقد قبلوا بذلك إذ من المتوقع أن يتخصصوا في عمليات العيون وهو عمل إلى حد كبير ينجز في العيادة الخارجية أو تلك التي تتطلب بقاء المريض لفترة وجيزة في المستشفى ، وبالتالي فإن 30 سريرا كانت كافية لهم . ذكر الدكتور بيتراي في مذكراته التي دونها في نهاية عام 1937م مايلي:« إضافة إلى العمل في المستشفى، كانت هناك استدعاءات متكررة إلى المنازل الخاصة، وهي بوجه خاص تلك الحالات المتعلقة بالنساء المريضات. وتضمنت هذه الاستدعاءات ستة أمراء من أصل الأمراء السبعة الذين يعيشون في صنعاء مع أسرهم، وكذا استدعاءات إلى منازل وزراء الدولة الرئيسيين. وكان ثلاثة من الأمراء الستة يرابطون في السجن حينها. وخلال إحدى زياراتنا إلى منطقة (سر) (تبعد 40 ميلاً من صنعاء) وهي محل إقامة أولاد الإمام الصغار للدراسة، تم معاينة ابن الإمام المريض وزودناه بنصائح طبية. وفي وقت لاحق وبطلب من الإمام قمنا بعملية استئصال اللوزتين لابنه في منزلنا ، حيث بقى الأمير الشاب الذي كان في الخامسة عشرة من العمر معنا في المنزل حتى انتهاء فترة النقاهة. بأوامر من الإمام، حضر هذه العملية كل من الأمير قاسم، الذي يشغل منصب وزير الصحة وكذا وزير الخارجية القاضي محمد راغب». كما كتب أيضاً:«ليست الحاله الوحيدة التي بقيت معنا في المنزل هي حالة الأمير رغم أنه كان الوحيد الذي عاش معنا كواحد من الأسرة ، إذ كان هناك آخرون أيضاً عاشوا في البيت الصيفي داخل حديقتنا. يومياً يأتي المرضى إلى المستوصف الملاصق للمنزل من أجل الأدوية ومعظم هؤلاء المرضى هم من الفقراء والذين سبق أن فحصوا في مستوصف المستشفى ولكنهم غير قادرين على دفع قيمة الرقود التي يتقاضها المستوصف وكذا قيمة الأدوية. الطبيب الشخصي للإمام كان إيطالياً وكذلك المهندسون والتقنيون».

في مارس عام 1939م وبعد مرور سنتين من الإعارة غادر صنعاء الدكتور بيتراي وزوجته في إجازة إلى أسكتلندا مع ابنهما البالغ ثلاث سنوات . في يناير 1942م كتب الدكتور بيتري تقريراً آخر إلى عدن يشرح ظروف عمل البعثة الطبية البريطانية في صنعاء:«يوجد في مستشفى الإمام يحيى حالياً نحو 200 سرير ومن هذا العدد هناك 60 سريراً تحت تصرف الأطباء البريطانيين (50 للرجال و 10 في قسم النساء). الأطباء الآخرون العاملون في المستشفى هما الجراح الإيطالي وطبيب الجيش السوري الجنسية. جميع العمليات الجراحية هي من اختصاص الجراح الإيطالي بسبب نفوذه الملحوظ، ماعدا الجراحة التي تبدأ من الرقبة إلى الرأس وكذا أمراض النساء فهي من اختصاصنا. جميع الحالات الطبية في الجيش تذهب إلى الطبيب السوري والباقي يأتي إلينا. ومن خصائص هذا البلد هو أنه لا يوجد أجنبي واحد يؤتمن عليه للمسؤولية الإدارية.

المراقب العام للمستشفى هو أحد عبيد الإمام ويقع تحت مسئوليته رؤساء مختلف الإدارات مثل الصيدلي وأمين المخزن والطباخ، وبما أن كل منسقي المستشفى هم من الجنود فهناك ضابط واثنان من الرقباء مهمتهم الإشراف على هؤلاء المنسقين. النقطه الرئيسية لهذا التقرير هو لفت الانتباه إلى العجز الطبي لدينا من حيث المستلزمات الطبية في ظل الظروف الحالية، كما أن معظم الحالات الطبية تأتينا إما من السجن أو من مدرسة دار الأيتام». وفي مكان آخر كتب الدكتور بيتراي ما يلي: «نظام الرهينة هو أحد أساليب الحكومة هنا والرهائن يقيمون في السجن. ومن بينهم نحو مائة وخمسين من الصبية الذين تتراوح أعمارهم بين ست سنوات وإحدى عشرة سنة! ويحشر عشرون منهم أو نحو ذلك في غرفة واحدة و يتركون لتدبير أمورهم بأنفسهم وعاجلاً ما يصبحوا قذرين وملابسهم غاصة بالهوام والحشرات. ونتيجة لذلك، فإنهم يصابون بالتيفوس Typhus والحمى الراجعة Relapsing Fever على حد سواء. الأولاد صغار السن كانوا يأتون إلينا من مدرسة الأيتام . بينما الرهائن وتلاميذ المدارس يشكلون الجزء الأكبر من مرضانا. كنا نتعامل مع الحالات الطبية الشائعة مثل: التهاب المفاصل الروماتيزمي Rheumatoid Arthritis وكذا السل الرئوي Pulmonary Tuberculosis والملاريا Malaria والجذام Leprosy إضافة إلى مرض التصلب المنتثر Disseminated Sclerosis». في منتصف عام 1942م أصيبت الممرضة كوويي بمرض التيفوس وكادت أن تموت. وأقنع الدكتور بيتراي الإمام يحيى أنه من الضروري إسعافها إلى عدن، وحصل على موافقته ، وتم إنزالها عن طريق البر مروراًً بـ (يريم) ثم حمامات (دمت)حتى (قعطبة) مستعينين بالحمير ومشياً على الأقدام أحياناً أخرى ، أما الطريق من قعطبة إلى عدن فكانت بواسطة السيارة. وفي مطلع عام 1943م عاد بيتراى إلى صنعاء (دون صحبة زوجته) من عدن برفقة الآنسة كوويي التي شفت من المرض وبصحبة الآنسة اندرسون إحدى ممرضات البعثة الدنماركية في عدن. وقد رأى الدكتور بيتراي أن الإمام يحيى يحترم أي شخص لديه القناعة الصادقة في العمل ، وقد شرفه الإمام بمنحه لقب (الفقيه). ومع استمرار عدم وجود طبيبة، اقترح بيتراى على شقيقه الأصغر الدكتور وليام بيتراي الذي كان حينها يعمل في (فرقة سلاح كينيا الأفريقية) في مدينة (عصب) أخذ إفراج من الفرقة لمدة ثلاثة أشهر لمساعدته. وقد تم له ذلك ، ولكن بسبب إصابة الدكتور بيتراى نفسه بمرض التيفوس، امتدت الإعارة لأشهر أخرى. وفي منتصف عام 1943م تفشت حمى التيفوس في اليمن ووصلت إلى مستوى الوباء epidemic وتفاقمت المجاعة الشديدة الناجمة عن شح الأمطار فى العام السابق له (1942م). الآلاف من أبناء تهامة لجأوا إلى المرتفعات ، وتفشي الإسهال والدوسنطاريا dysentery بسبب الاكتظاظ والجوع وانعدام النظافة وارتفع عدد الموتى. لاحظ الدكتور بيتراى أن هناك تخبطاً وعشوائية في إدارة الأمور وغياب سلطة اتخاذ القرار لضمان الحفاظ على أبسط الضوابط الصحية في المستشفى، مما أدى إلى عجز البعثة الطبية عن مساعدة المرضى، في حين هم أنفسهم كانوا يومياً يتعرضون لخطر الإصابة بمرض التيفوس. على إثر ذلك، أرسل الدكتور بيتراي إلى حاكم عدن رسالة يوصي فيها بإغلاق عمل البعثة البريطانية في صنعاء والعودة إلى عدن، وقد أيد قراره حاكم عدن بقوة.

تأجل إغلاق البعثة لحين استرداد الدكتور بيتراى صحته بما فيه الكفاية للسفر الى عدن وذلك في أواخر 1943م. وفى أوائل عام 1944م، وبعد أن أمضى إجازة مرضية مع عائلته في جامايكا، تولي الدكتور بيتراى مهامه الجديدة كضابط طبي لمحميات عدن ، وقد وضع نصب عينيه مهمة عاجلة ألا وهي احتواء وباء التيفوس الذي كان قد امتد آنذاك من اليمن إلى مستعمرة عدن والمناطق الأخرى. في أواخر عام 1946، غادر الدكتور بيتراى وعائلته مدينة عدن من أجل حياة جديدة في أسكتلندا ، وفي نهاية عام 1947 أضيف اسم الدكتور بيتراى إلى قائمة الشرف وحصل على جائزة (أو.بي. إي OBE) التي تمنح من الخدمات الطبية لمحميه عدن.

توفي الدكتور باتريك بيتراي في مسقط رأسه عام 1986م عن عمر ناهز الثالثة والثمانين عاماً.

هوامش:

(1) من مواليد عام 1903م.

(2) بعد خمسين سنة من الخدمة وفي منتصف الثمانينات، هدم ما تبقى من مستشفى الإمام وتم تشييد (المستشفى الجمهوري) الكائن حالياً بمواجهة شارع الزبيري بصنعاء - ( الكاتب).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى