عشق ووجد.. وشعراء في حلم يقظة

> «الايام» علي محمد يحيى:

> كنت في أسبوع مضى، قد أطلعت قراء هذه النافذة الأدبية الكرام على ما تمكنت من تدوينه وأنا في حالة من أحلام اليقظة، رأيت ساعتها نفسي وكأنني أستنطق خلالها أحب الشعراء إلى نفسي من قدماء ومعاصرين.. أستنطقهم عما اختلجت به قلوبهم وألمّت بهم من جراحات العشق والوجد والهيام.. ومتخيلاً أني محاورهم فيما نعتقد أنهم يميلون فيه إلى الكتمان من البوح عنه، إما عفة أو مراعاة لقيم وتقاليد كل عصر عاشوه.

وأذكر القارئ العزيز أن جميل بثينة بن عبدالله العذري كان هو آخر المتحدثين في ذلك اللقاء الذين خلا.. وها أنا أعاود استحضار من تبقى منهم في ذلك الحلم الجميل، حلم اليقظة الذي كان فإليكموه كما عشته..

في المقعد الوثير المقابل لي وحول الطاولة الكبيرة الحجم المستديرة، رأيته جالساً مسترخياً، فعرفته ساعتها، كما تصورته حين أقرأ شعره.. رأيت الملوكية في سيمائه بطربوشه الأحمر الذي يعتلي هامته الشامخة، ويده اليمنى على صدغه طارقاً في التفكير ومسترسلاً.. وعصا الأبنوس السوداء اللامعة في قبضة يسراه وكأنني أراه في تمثاله الذي يتوسط حديقة الأندلس بقاهرة المعز في أرض الكنانة.. آفاق من حالة التفكير والشرود على صوتي المرتفع كالصياح وأنا أسأله:

- شوقي بك، يا أمير الشعراء وسليل البشوات والحكيم في الحب وفي العشق.. حدثنا ما الحب وما الهوى؟؟؟

شوقي: وما الحب إلا طاعة وتجاوز

وإن أكثروا أوصافه والمعانيا

وماهو إلا العين بالعين تلتقي

وإن نوعوا أسبابه والدواعيا

وعندي الهوى موصوفه لا صفاته

إذا سألوني ما الهوى قلت ما بيا

وكا أن سمع أبو هانئ هذا التوصيف للحب والهوى من أمير الشعراء ابتسم راضياً عما سمع، وبعينيه المشرقتين أدركت كأنه يقول لي: لا تنس أنني موجوع من الحب فاترك لي بعضاً من فرص الحديث - ليعلم القارئ أن أبا هانئ إنما هو شاعرنا الكبير محمد سعيد جرادة -فقلت: لا أسألك بل قل ما عندك أبا هانئ!!

محمد سعيد جرادة:

يا حبيباً لم يدع في مهجتي

موضعاً فيه حبيباً أول

كلما تبدو يغني خاطري

لحن حبي ويرق الغزل

ويرف القلب أشواقاً كما رف

في الروض الربيع الخضِل

قلت: أبا هانئ طلبت منك أن تصف الحب فوجدتك تصف المحبوب!!

محمد سعيد جرادة: قد قلته.. أفلم تستدرك وأنا أناجيه؟

قلت: أفصح عنه جرادة!!

جرادة:

هو صبٌ فيك قد جن جنون الشاعرية

يفتدي الفيد إلا ما لبد بنفس عاطفية

روحه طافت سماوات من الفن عليّة

وتغنت بمنى الحسن وحلم الآدمية

على محمد لقمان بكامل أناقته ورائحة العطور الفرنسية الفواخة المنبعثة منه قد تضمخ المجلس بأريجها، صامت إلا من التفاتات يوزعها هنا وهناك.. فذكرني بليالي غريب وبجماليون وأشجان في الليل، وعلى رمال صيرة. قلت: لما أنت صامت؟؟

علي محمد لقمان:

وكم صامت والشدق دون بيانه

ومن دون معنى صمت منطقُهُ اللسن

قلت: نعم والله، فالصمت من ذهب.. إلا أن مجلسنا هذا لا يعفيك من الإدلاء بدلوك في العشق!!

علي لقمان:

يا نائياً من محب طالما لاقى

من البعاد تباريحاً وأشواقاً

تكتم الوجد عن عذاله فجرت

مدامعٌ كشفت للناس ما ذاقا

ولم يبح بالهوى شادفٌ غنجٌ

خوفاً من الحسد الباغي وإشفاقا

قلت: وما الذي يجعلك تكابد مشاق الحب إن لم يكن رغداً؟

علي لقمان:

يا لائمي في الهوى كم لائم نزفٍ

لم يدر في الحب ما أضنى وما شاقا

لا تعذلن محباً غير منتصتٍ

إن الـمحـب إذا مـا لمته ضاقا

قلت: أعشق كيفما تشاء، فلا معذب سواك!!

على ميسرة مني يجلس أبو هديل.. إنه عبدالرحمن السقاف الذي ما انفك يلكز ساعدي، محتجاً بأن لا لوم لعاشق.. فما بالي إن كان موجهاً للقمان، وهو الذي قال عنه الشاعر الكبير فؤاد شاكر وعن أشعاره حين أهداه ديوانه «أشجان في الليل»:

أشجان لقمان من وجدي وأشجاني

كأنما أنا منها رجعها الثاني

جاءت وفيها جميل القول مؤتلق

كأنما وحيه من وحي لقمان

قلت: أبا هديل!!! أهو تنصل منك من الحديث؟ أم أنك قد اكتفيت بما جاء منك في شعرك بأن استبدلت المحبوب بالمكان تورية؟؟ فأنت تعشقت مفاصل عدن كلها بحواريها وأزقتها أكثر من غيرك كما لو كانت امرأة يُتعشق بها؟

السقاف: هذا لافتقارك لأدبي وشعري..!!

قلت: علك ناصبت الحقيقة.. فأسمعنا إذاً من وهج عشقك ووجدك فيمن أحببت.

عبدالرحمن السقاف:

معشوقة قويت على أسر الفؤاد

ناديتها بتقبل وتضرع

وحملتها بين الضلوع زاهداً

في غيرها وبغيرها لا أطمع

ووهبتها زهر الحياة وعطره

ومنحتها شعري وفرحي وأدمعي

يا تائهاً.. إن المحبة لم تزل

أنت المحيّر عندها والمدعي

بالله.. لم تلمح سناها ولم ترَ؟

حسناً يغرّد في الضياء الساطع

بالله.. لم تدر بأنها والهوى

لا يأتـيان بالـتمـني.. ألا تـعي؟

قلت: أبا هديل.. ساعدك الله.. وسامحك حين زدتني وجداً على وجد ولم أك أعرف إلا أنك شاعر حداثة.. فهات بربك بعضاً منه ولا تخرج عن درب الحب.

السقاف:

عبرتُ خلال عينيك

دخلتُ مدائن العبق

وطفتُ عوالم البشرى

لأبلغَ لحظة الألق

وجئتك حاملاً روحي

مبعثرة على الورق

يدندن سرها النشوان

يرقص في دنى العشق

فإن طفقت أغاريدي

محلقة على الأفق

فبعض الشعر فاتنتي

يكون عصاره القلق

فرُبّ قصيدة ولدت

من الأعصاب والأرق

قلت: لا فض فوك عبدالرحمن..ولك الله في تبتلك وتضرعك مع معشوقتك.

سبحان الله.. ما أجمله من مجلس طيب اجتمع إليه غير أحب الشعراء إلى النفس أميران.. أمير الشعراء شوقي وشاعر الأمراء عبدالله الفيصل. التفتُ إلى الأخير مخاطباً سموه:

- يا شاعر الأمراء، اسمح لي في مقامنا هذا أن أخاطبك باسمك الذي سماك به والدك الفيصل ياعبدالله الفيصل.. فأنت الذي زعمت أنك محروم دائم الإحساس بالحرمان، رغم ما أنت فيه. وأصدقك القول أن الحرمان ربما كان هو الدافع نحو التسامي في الحب. أو لست القائل:

ولولا الحب في الأعناق رقٌ

ملكتكَ باليمين وباليماني

فإن للأمراء يا ابن الفيصل قلوب .. فأي بأس عليك يا شاعر الأمراء إن لم تسمعنا ما اختلج به فؤادك المحروم!!

شاعر الأمراء:

يا توأم الروح ونور البصر

ضاقت مني الروح بهذا السفر

وغشت الوحدة عيني فما

يؤنس عيني كل هذا البشر

قالت: نحس في شعرك شوقاً كاوياً في قلب تغلي مراجلهو، فنراك تذوب وجداً كما يذوب شعرك رقة وهياماً، فلا تبخل بجرعة أخرى رعاك الله.

الفيصل:

قلت أهواك وعن دنياك بالحب شغلت

وبودي لو تحدثت إلى الدنيا بحبي وأطلت

وتأملت الذي يوحي إلى قـلبي وقـلت

في الطرف البعيد.. ينشغل أبوبكر محسن الحامد - الدكتور- بعدة الأرجيلة - الشيشة - بين تغيير تبغها وإشعال حجر الفحم الاصطناعي، وحرصاً منه أن لا يزعجنا دخان التبغ المتصاعد فقد جعل مقعده الأبعد بين الحضور.. رأيته غير مكترث لما يدور إلا من انشغال في التأمل بناظريه بين صفحات أطروحته في الأدب المقارن بين فروست شاعر الماديات الغربي وصالح الحامد شاعر الرومانسية الحضرمي اليمني.. حينها قطعت عليه حبال تفكيره التي اختلطت بدخان الأرجيلة أسأله: أبا حمدي هل لنا أن نعيدك إلى دائرة العشق للحيظات؟ ابتسامته لا تفارق محياه كانت دالة على رضاه.

قلت: قد استمعت إلى كل هؤلاء الصحبة، ما بين نوح باك وقطع أنفاس ورقرقة عبرات في بوحهم فيما يكابدون من الحب والعشق، فما تقول؟

الحامد:

كلما رمتُ للسّلوِّ سبيلا

لا فـؤادي سلا ولا الـجفن ناما

لن تفكي ألغاز شعري

شعوري هي غذته لوعة وغراما

صحوت وياليتني ما صحوت، فالحلم لم يكتمل بعد، إنه حلم يقظة..

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى