حكومة لحج الحرة أقامت في دار النعايم بالزعفران

> فاروق لقمان:

> تحدث الوالد رحمه الله في مذكراته التي حصلت على مجموعة منها وما زلت أتمنى البقية الضائعة منها، عن لحج وسلاطينها وأهلها وتاريخها المعاصر منذ بداية القرن العشرين. وأكد حبه لها بالاقتران من سيدة تنتمي إلى أسرة كريمة من آل مغلس وهي أم أخي الأستاذ المهندس فضل الذي أصبح مديراً للمعهد الفني بعدن بعد تخرجه من بريطانيا.

كتب الوالد في التاريخ والناس والحياة الاجتماعية في لحج أكثر مما فعل بالنسبة إلى أي محمية أخرى خلال العهد الاستعماري، ربما لقرب لحج من عدن والاتصال الدائم بين المنطقتين إذ كانت عدن مستعمرة مباشرة ولحج محمية - شبه مستقلة - للبريطانيين الذين كانوا يتدخلون في شؤونها ولو من وراء الكواليس وأحياناً بصورة مباشرة كما فعلوا في الخمسينيات بعزلهم السلطان علي عبدالكريم فضل حفظه الله، وقبله أخوه الراحل فضل عبدالكريم بتهمة قتل ابني عمه عمداً.

وقد جمعت حلقتين من مذكراته عن لحج ضمتا جوانب من التاريخ السياسي والحياة الاجتماعية. إحداهما تشير إلى مناداة الأمير محسن فضل بالثورة ضد الأتراك الذين كانوا يحتلون لحج، والأخرى إلى أهلها الأكارم وعلاقته بهم. يقول الوالد في مذكراته التي تعود إلى أوائل القرن العشرين:

«توفي السلطان علي بن أحمد بن علي العبدلي متأثراً بجراحه التي أصيب بها وهو خارج لحج ليلة غزو الأتراك ودخولهم الحوطة، وقد زرته وهو على فراش الموت في بيت محمد عبدالله حسن علي قبيل وفاته وكان يبتسم لي ويسألني عن دروسي الإنجليزية وهو ثابت مثل الأسد الجريح ولو كان البنسلين قد اكتشف في ذلك الزمن لربما عاش ذلك السلطان الكريم وسلم، واجتمع الكولونيل جيكب معاون والي عدن الأول بأمراء لحج وكان صديقاً حميماً لبيت فضل محسن ولكنه استطاع أن يقنعهم بوجوب اختيار عبدالكريم فضل سلطاناً على لحج تعويضاً لبيت علي محسن لفقدهم عميد عائلتهم السلطان الراحل.

«وأقام السلطان عبدالكريم حكومة (لحج الحرة) في دار النعايم في شارع الزعفران وكانت هذه الدار من بقايا أملاك بيت صالح جعفر ومثلها دار الفردوس في نفس الشارع، واستوزر أخاه محسن فضل لحدة ذكائه وشغوف حسه وقرب رؤساء العشائر مثل محمد فضل العزيبي وعقال بيت السلامي الذين رافقوا آل محسن فضل في السراء والضراء، وسكن الأمير علي بن أحمد فضل وإخوانه فضل وعبدالحميد بيت بازرعة في المعلا بجوار مخفر الشرطة الذي تحول بعد ذلك إلى إدارة بريد ثم إلى قسم للتنظيف الصحي وسارت الأمور ووكلاء أمراء العبادل يشرفون على أراضيهم وأطيانهم في لحج ويبعثون لهم الغلة.

«وفي ذلك العام (1915) ألف الأمير محسن فضل بالتعاون مع أخيه أحمد رسالة عن الأتراك وغزوهم واحتلالهم للبلاد العربية وأن من شباب العرب من فكروا في الثورة على تركيا إذ كانت هذه الثورة قد بدت طلائعها تستعر وروح التمرد تتحكم، سيما بعد غزو الأتراك لحجاً، وبعد ما لاقاه أهل لبنان وسوريا من قسوة جمال باشا وجمعية الاتحاد والترقي ورجالها أنور باشا وطلعت باشا، وكانت بعض الصحف العربية تحمل صور المشانق التي أقامها الأتراك لأحرار العرب في لبنان، ولم يكن كثيرون يصدقون هذه الأخبار بل عدد كبير كاد يقدس أنور باشا، وقال بعض المؤرخين إن كل ما نسب إلى جمال باشا من الظلم والجور كان مبالغاً فيه ولكنني كنت أقرأ خطابات تصل من لبنان لصديقي لويس الخازن تصف بشاعة تعذيب جمال باشا لأبناء العرب، ولم تمض إلا أيام واندلعت ثورة الملك حسين بن علي وأولاده.

«كنا نجتمع للمقيل في مبرز عبدالله مربش وكان دلالاً، بشوشاً مضيافاً، وهناك قدم لي الأمير محسن فضل كتابه لأقرأه وقد قال إن الثورة يجب أن تبدأ في اجتثاث الأتراك من البلاد العربية مستنداً إلى الأثر القائل «أتركوا الترك ما تركوكم وإن تركتموهم ما تركوكم». ودار نقاش طويل حاد حول هذه الفكرة كان يشترك فيه الرفاق من العدنيين واللحجيين محمد محبوب وعلي محبوب ومحمد عوض محيرز أحياناً لأنه كان لا يتدخل في السياسة ومثله محمد علي العمودي، ومحمد علي سعد الجراش وإخوانه أحمد علي سعد وحسن علي سعد وكان يحضر أحياناً عبده قاسم علي سعد وعبدالله المرق والحاج ربيع عبدالله إسماعيل.

«ولم نكن كلنا مع الأمير محسن وأخيه أحمد وكنا نختلف اختلافاً بيناً، وكان الأديب اللحجي صالح الفقيه يحضر هذا النقاش، الذي طالما اكتنفه جو من المرح والنكات وحتى الضحكات العالية بسبب روح الأمير أحمد فضل المنطلق في آرائه وفلسفته وأدبه الشعبي فقد كان يرى أن سيطرة الأتراك على البلاد العربية غزو محتوم، انتصر على تاريخ الشعب العربي ومثله وثقافته، لأن العرب تهالكوا على الاستسلام للضعف والخور ولم يحاولوا وقف هذا الغازي المتفوق، وسلموا لآل عثمان بالخلافة ودعوا لهم في صلاتهم وأذعنوا لهم بالطاعة العمياء وتمكن الأتراك من فرض طاعة ولي الأمر مهماً كان تركياً أو إنجليزياً أو إفرنسياً مع أن الدين الحنيف يشترط أن يكون مسلماً صالحاً تقياً ورعاً عالماً.

«وفكر الأمير محسن في طبع كتابه وحاولت مساعدته فلم أجد غير مطبعة في سجن عدن وأخرى مع هاورد اليهودي كانت في الشارع 4 قسم ألف وتعذر طبع الكتاب.

«بعد أيام أخذ الذبول يسري إلى جسم الأمير محسن فضل الغض وانقطع عن الخروج من بيته وتذكرت أنني كنت وقفت على كتاب المعاهدات البريطانية مع أمراء المحميات وفيه وصف دقيق لحياة كل أمير في هذه البلاد: أخلاقه وصحته وتعليمه وهواياته وميوله السياسية، ومن الجملة حياة الأمير محسن فضل واستعداده لمرض السل وقد مات في شرخ الشباب بعد أن أورث شعب لحج تركته وعمرت باسمه المدرسة المحسنية.

«لما وصلنا إلى الحوطة، علي محبوب فرحات وأنا، استقبلنا في داره السيد علوي بن حسن الجفري وأنزلنا في غرفتين من غرف تلك الدار العامرة، وأضافنا أياماً فأكلنا وشربنا وتمتعنا وكان يقص علينا تجاربه وأخباره عن سادات المخاء وأبناء العوالق وأمراء لحج، والسيد علوي رحمه الله كان كريماً مضيافاً كما كان ولده أيضاً السيد عبدالله علوي ولا يزال، وبعد إقامة بضعة أيام انتقلت إلى دار السلطان عبدالحميد أحمد فضل وصرنا أصدقاء وكان في مثل عمري تقريباً.

«تدربت أكثر في لحج على ركوب الخيل وكنت أرافق السيد عبدالله علوي إلى الحسيني والحبيل على صهواتها وتعرفت على الجم من أبناء الأمراء العبادل منهم علي محمد منصر وأحمد مهدي وحسن بن علي وفضل عبدالكريم، وذات يوم خرجنا إلى بستان الجفري في سفيان وكان بستاناً أخضر زاهراً غنياً بالفاكهة ومنها البيدان والمناصف والموز وهناك أخذنا نتدرب على ضرب الرصاص، وحملت بندقية وصوبتها إلى طير على شجرة وعندما ضغطت على الزناد، ضرب يدي الأمير أحمد مهدي فانحرفت البندقية وانطلقت الرصاصة وكادت أن تقتل الأمير فضل عبدالكريم وظهر في اليوم الثاني أن الرصاصة أصابت بقرة وقتلتها.

«وذهبت كالعادة بعد ظهر اليوم الثاني إلى مبرز السلطان علي بن أحمد بن علي والد السلطان الحالي فضل بن علي وأخيه عبدالله بن علي والمرحوم مهدي بن علي والد أحمد مهدي.

«التفت إلي السلطان وقال «فوقك دعوى يا محمد علي» قلت: حاضر. فدعا الرجل صاحب البقرة وادعى أن بقرته أصيبت برصاصة في اليوم السابق، وقال السلطان: إن الشهود يقولون إن الرصاصة أطلقت من بندقيتك، فقلت: هذا صحيح يا أبا أحمد، فقال: وكيف تقتل بقرة إنسان مسكين، فقلت: إنني لم أتعمد ذلك وكانت الرصاصة طائشة، فقال: هل لك شريك في الذنب؟ فقلت له: لا.. فضحك وكأنه كان قد عرف التفاصيل:

الحكم عليك 40 روبية، قلت: حاضر..

فقال: هل تعرف اللغة الإنجليزية؟ قلت: نعم.. فقال: ما اسم اللجام بالإنجليزية، فقلت: رين، فقال: ما أريد اسم الحزام الجلد ولكن اسم القطعة الحديد التي تدخل في فم الفرس. فأشكل علي الأمر فقال لي: قل (لجام) بفتح اللام، ولكن الله فتح علي فقلت له: «برايدل» فابتسم وقال: جائزتك إنني سأدفع ثمن البقرة.

«وكان السلطان علي بن أحمد بن علي كريم الطباع، قريبا إلى القلوب، سخي النفس، بدوي السجايا، يحب الطرب والسمر في ليالي القمر، وكانت السلطنة تحت إدارة أبناء عمه محسن فضل وأحمد فضل وعبدالكريم فضل، وكان محسن فضل شاباً جميلاً ذكياً مفرطاً في الذكاء، وكان تقريباً الوحيد بين أمراء العبادل الذي أحسن اللغة الإنجليزية وكنت أحاوره بها وكان يوسف فضل من إخوانه أيضاً إلا أنه كان بعيداً عن دوائر الدولة.

«وكانت لحج عام 1914 من أطيب مدن الجنوب، بمبارزها العطرة ومزارعها الخضراء وأهلها الكرام.

«ويتألف البيت المالك في لحج من بيت علي محسن فضل محسن ومنصر محسن وعبدالله محسن وعبدالكريم محسن وقد عرفت محمد عبدالمجيد فضل وولده فضل وعلي بن أحمد فضل وفضل بن أحمد فضل وعبدالحميد وآخرين.

«وكنا نجتمع في مقيل القات كل يوم في مبرز، وكان الشيخ علي محبوب يقص علينا حكايات مضحكة فقد قال لنا إن علي بانبيلة كان من أبناء عدن الفقراء الذين رزقهم الله العيال وامتحنهم في المال وكان قد رزق باثني عشر ولداً وبنتاً فضاقت به الدنيا وذهب إلى زوجته بورقة الطلاق ليتخلص من إنجاب الأطفال.

«ولكن أهل الخير محبوب وريحان فرحات وغيرهما تعاونوا على تزويجه من امرأة عاقر (ليستر دينه) فقبل الزواج منها وما شعر إلا وهي حامل فضج وصاح فأكرموه وبعد تمام الحمل وضعت توأمين، فذهب إلى أصحابه نصف الليل يلومهم على هذه الوقيعة ويقول لهم «إنكم بدل أن تستروا ديني كشفتموه».

«وكنا نضحك ونفرح وكنت أنا فتى يافعاً يزامل الأمراء والمشايخ والقضاة، ومنهم الشيخ أحمد النخلاني والسيد أحمد قاضي لحج الـذي قـال ذات مـرة إنه كـان لـه صـديق أديب جن في غياب القاضي في الحج ولما عاد ووجده سجيناً ذهب يشفع فيه وأنذره السلطان أن الرجل مجنون ولكنه كان قد زاره في السجن ووجده في أحسن حال.

وبعد إطلاقه ذهب القاضي إلى المسجد لصلاة الجمعة وعند عودته وجد صديقه المجنون واقفاً له عند باب بيته وبيده خنجر وقال له وهو يرفع الخنجر فوق رأسه «رد خنجري هذا ببيت من الشعر».

قال القاضي فشعرت بدنو الأجل ولكن حرارة الروح أملت علي هذا البيت:

نفسي تحدثني بأنك قاتلي

روحي فداك عرفت أم لم تعرف

وقبل الأديب المجنون الشعر وذهب راضياً فركض القاضي إلى السلطان يستجير به ويطلب إعادة المجنون إلى السجن، وضحك السلطان ورفض الطلب ولكن القاضي قال ?{?إنا ها هنا قاعدون?}?.

وطيب السلطان خاطره ودعاه للغداء».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى