في سينما المرسابة صالح حاجب يصرع قاتلاً مسلحاً بضربة عصاه

> فاروق لقمان:

> ومن ذكريات الوالد رحمه الله أن والدته زينب بنت محمد يوسف منشي كانت تربي عدداً من الأطفال منهم الشيخ عبداللطيف الشعبي، عام 1917، وهو والد فيصل الذي أصبح رئيساً لوزراء أول حكومة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بعدما قضى فترة قصيرة وزيراً للتجارة ثم أميناً عاماً للحزب الحاكم الجبهة القومية. وهو ابن عم قحطان محمد الشعبي أول رئيس للجمهورية قبل الانقلاب عليه عام 1969 ثم وفاته في المعتقل. أما فيصل فقد قتل في سجنه قبل ذلك بأعوام وكان من زملائي في المدرسة المتوسطة بالرزميت قبل رحيله إلى القاهرة حيث تخرج بشهادة بكلاريوس تجارة.

ويتحدث الوالد عن بعض من عرف عام 1915 حيث يقول:

«ذات ليلة ذهب السلطان عبدالكريم إلى دار السينما في الميدان وكان يملكها عبدالعزيز خان أخو يوسف خان وعبدالرحيم خان وعبدالرحمن خان وهم من بيت عدني عريق، وكانت تلك السينما في المقهاية التابعة للسيد حسن غبري اليوم مقابل مقهاية زكو يملكها زكريا محمد الياس ويملك مثلها في التواهي أخوه عيسى محمد الياس.

«وكانت السينما المذكورة الثانية في كريتر (عدن) إذ كانت سينما أخرى يملكها السيد محمد حمود في المرسابة. وفي تلك الليلة ذهب شاب لحجي اسمه بانصير إلى باب السينما وطلب الدخول لمقابلة السلطان ولما علم السلطان بطلبه وكان يعرفه أديباً وديعاً بعث إليه بالأمير محمد سعد فما كان من بانصير إلا أن جرد جنبية في حدها الموت وطعن بها الأمير الذي سقط مضرجاً بدمائه احتجاجاً على عدم خروج السلطان إليه وصاح الصائح وبانصير واقف يهدد كل من يقترب منه وانسحب بضعة ياردات ففاجأه الهولدار - شرطي - أفوينة الصومالي ولما قبض على كتفه طعنه بانصير طعنة نجلاء أودت بحياته في الوقت الذي كان قد ركض نحو السيد عباس الهولدار من رجال البوليس السري ولكن بانصير كان أسرع من القضاء المبرم حين ينقض فدفع بجنبيته إلى جنب السيد عباس وكانت القاضية. وفي تلك اللحظة وقد جن جنون بانصير لرؤية الدم الهدور الذي غسل الشارع وهو يهذي كأنه القضاء المحتوم ضربه حيدر الدبعي وكان من الأبطال العدنيين في المبارزة وضربه بالعصى فسقطت الجنبية من يد بانصير ولكن حيدر لم يستطع الثبات على قدميه فالتقط بانصير سلاحه الماضي وألحق حيدر بضحاياه الآخرين ولكن صالح حاجب علي الذي وصل على صوت الصائح وقف يراقب هذا القاتل الذي لا يرحم ويتأمل طعناته التي لا تخطي القلوب فتخترقها ورآه يهدر هدير الجمل الثائر فتقدم إليه ببطء ولما رفع بانصير يده بالجنبية زاغ صالح حاجب منها وضرب يده بالباكورة ضربة عنترية أطاحت بالبانصير وعندئذ تدافع الناس نحوه ووصل البوليس للنجدة وقبض عليه وأشاد الناس ببطولة صالح حاجب. وعلم السلطان بالواقعة فخرج من السينما محروساً للعناية بالأمير محمد ونقله إلى المستشفى الأهلي وسأل عن بانصير ووقائعه السوداء وكان المستشفى مقابل سوق اللحم والصيد الجديد (اليوم) في طريق الطويلة وقد ذهب الناس إليه بالمئات ومات محمد سعد الأمير بعد أيام وكان يسكن البيت المجاور للشريف محمد حسن الرفاعي فوق دكان باحميش.

«ولم أدخل السينما تلك الليلة وقد كنت من روادها أكثر من مرة في الأسبوع وكانت الأفلام صامتة وكنت أترجم الكتابة الإنجليزية للزوار وكان عبدالعزيز خان يسمح لي بالدخول مجانا.ً ومن الأفلام القديمة كانت أفلام البيدرو وأفلام ماسيست والأفلام الهندية باللغة الججراتية ولا أزال أذكر الخواجة ألبرت صفير الذي هاجر السينما الهندية لأن كل البانيان - الهندوس - كانوا يقرأون الكتابة بأصوات عالية في وقت واحد ويحدثون ضجيجاً ودوياً مزعجاً. وكانت دور السينما تقيم أحياناً تمثيليات مثل «كنك تارا». وقد ذهبت لزيارة الأمير محمد سعد مع ولده علي محمد سعد الذي كان صديقي قبل موته متأثراً بجراحه.«وحكمت المحكمة على بانصير بالسجن المؤبد ونفي إلى كالاباني وهي جزيرة بعيدة في الأوقيانوس الهندي وبقيت أمه تبكي عليه السنين الطويلة وتقول إن ابنها جن وإلا لما فعل وهو الولد الشجاع الأديب وكان قد أصيب بالجدري وظلت إماراته في وجهه وكان طويل القامة فصيح اللسان».

وانتقل الوالد إلى موضوع آخر كان يشغل مجالس المقايل والمخادر وهو الجبرت الذين أنصفهم الوالد بينما كان الغالبية يسيئون فهمهم. قال:

«جماعة جاؤوا عدن من صوماليا من منطقة جوبا وكانوا يعملون كناسين في إدارة الصحة ورغم اشتغالهم بحمل القمامة فقد كانوا من أنظف الناس في معيشتهم ولباسهم وكانوا يسكنون المنطقة المجاورة لحافة الدوابية - الذين يغسلون الملابس - في كريتر محافظين على الصلاة والصيام وإذا دخلوا المساجد كانت قمصانهم الطويلة مثل القراطيس البيضاء ولهم احتفالات دينية ورقص ديني وطبول ومقارع كل أسبوع. وقد انقرض هذا الفريق فقد كان منهم بعض العلماء كالشيخ أبي بكر الجبرتي وكان عالماً مفتياً في التواهي وعاد أكثرهم إلى بلادهم ولا أذكر إلا عدداً ضئيلاً عرف اللغة العربية منهم. وللجبرت قصة طويلة في عدن فقد كان أهاليها يعتقدون أنهم يخطفون الصغار والكبار في شهر صفر وكان الناس لا يخرجون في الليل في هذا الشهر وكانوا يختلقون القصص عن الجبرت وعن خطفهم لفلان وفلان وكيف أن واحداً لما خطف ووضع في البنجلة (العمارة) التي على الجبل فوق العقبة نادى بن علوان في نصف الليل ففتحت أمامه نافذة في الجدار خرج منها وصار يقيم حفلة علوانية كل سنة لذلك الولي المشهور. وكان صديقي السيد عبدالرحمن باهارون يعتقد أن قصة الخطف صحيحة ومرة كنا معاً وجاء رجل من الخساف يركض بعد العشاء في شهر صفر وهو يصيح الجبرت! الجبرت! وقبض عليه البوليس ليستفسره، وقال لي السيد عبدالرحمن هيا ايش شفت؟ ولما حقق البوليس لم يجد صحة لخوف الرجل فقد كان الذي ركض وراءه خفير تشكك فيه عندما مر بقرب منزل في منطقة البوليس المسلح اليوم.

وفي عام في آخر ربوع في صفر كان معلمو الصبيان يكتبون لهم «المحو» بنصف ربية إذا كان بالزعفران وبآنتين إذا كان بمداد مخثر له رائحة كريهة ليسلموا من الجبرت في عام قادم وكانوا يأخذون الصبيان إلى البحر وأعطاني أبي علقة لذهابي وراء خرافة كهذه وإن كان الضرب لا ينفع في التربية إلا أنه أفادني بأن الخرافات والترويع والهول من الأمور الفاسدة المفسدة.

والجماعة الأخرى التي تكاد أن تنقرض في عدن هي جماعة الكشوش فقد كان منهم علي بهاي الذي عمر مسجد سوق الحراج وكان له حانوت معطارة في سوق البهرة وكنت أحمل إليه إيجار المنزل الذي وُلدت فيه في الشارع الأول من قسم د وهو وقف على المنزل ولذلك لا يزال كما كان. يذكرني به كلما مررت بقربه حاجز من الخشب كان أبي أتى بنجار لتسميره حتى لا أسقط من الشباك إلى الشارع لأنني كنت كثير الحركة وكان ضنيناً بسلامتي رحمه الله.

ومن الكشوش عبدالرزاق وكان له دكان في السوق الطويل للمعطارة وصالح بهاي عصب والا وعدد من الميمن وما يزال بعضهم يعيشون لم تتبدل أحوالهم عما كانت عليه مع أنهم أهل خير وأحدهم هو الذي بنى مسجد العيدروس في القرن الماضي وكانوا هم الذين تولوا مسجد أبان.

كما تحدث عن مهن شائعة آنذاك أي قبل مائة سنة فقال:

«كان المزين في مطلع هذا القرن هو طبيب الأسنان وكان فيزو وحمران يختنان المواليد في عدن وما تزال هذه المهنة باقية بين أحفادهما، وكان عبدالرزاق مامده يقلع الأضراس بمقلع طبيب الأسنان ويعالج الأضراس من السوس كما كانت امرأة من آل الزميلي تداوي أسنان الأطفال المسوسة بالعرمص وهو نوع من البخور للفم يقتل الجرثومة، وكان الحلاقون هم موزعو دعوات المخادر والأعراس وأشهرهم في هذه المهنة عبدالله قزيح وقد كان أنيساً مضحكاً، ومسلياً في المخادر مع ابن عمه علي مايو.

«ومن طرق التداوي القديمة التي هجرها الناس «الحجامة» فقد تعود عليها أهالي عدن نساءً ورجالاً وكان في مدينة كريتر وحدها عدد من الحجامين في زعفران وفي حافة حسين منهم عبدالله الحجام البيضاني وأحمد الظاهري وكان الناس يحجمون يوم الجمعة مرة أو مرتين في العام ولم يكن العدنيون يزاولون مهنة الحجامة وأذكر ربيع باسيف، كان يستخدم المحاجم. «قرأت ذات مرة أن المحاجم في العصر الذهبي الإسلامي وفي أيام بغداد كانت من الفضة والذهب أما لعامة الناس فقد كانت من قرون البقر. والحجامة تتم بامتصاص جلدة الظهر والرأس بعد حلقها ثم فشطها بالموس وامتصاص الدم وكانت الحجامات صوماليات وأظن أن الحجامة كانت تفيد المصابين بضغط الدم، وهي نوع من العلاج القديم.

«وقد سألت مرة الطبيب الجراح في المستشفى الأهلى عن الحجامة فقال إنها قد تحدث نزيفاً وفقر دم وأراني دود العلق وكيف يمتص الدم الزائد فوق الخدود مثلاً وقال لي إنه خير من الحجامة ولا خوف منه من نزيف ضار وفيه يسر وسلامة وكان يحفظ العلق في طين، وهذا الطبيب قطع لي الكلبة بلغة العصر (اللسان الصغيرة) مع أن قطعها يضر ولا ينفع فإنها تمنع دخول الشوائب إلى الحنجرة.

«وكانت عدن عادة تعرف الفصد فقد شاهدت مرة رجلاً يدعي علم الطب يقطع عرقاً لرجل في جبهته وقال لي أبي إنه الفصد وأنه مفيد لعلاج الصداع الدائم.

«كما كان العمال الأفارقة يتكسبون بضرب الطاسة والطبول عند المخادر وأيام الأعياد وفي الأفراح وعند قدوم المسافر بعد غياب وعلى رأسهم سالم نصيب وكان العدنيون يحشون أفواههم بالنقود والذهب أحياناً وأهل عدن مشهورون بالكرم.

«والعمال الأفارقة قدموا من اليمن وهم من أصول حبشية والنساء كن يرقصن وقت المقيل بعد الظهر عند كل دكان، وعدد كبير منهم في التهايم وقد تزاوج الأحباش والفرس بعد أن انتصر اليمنيون على الأحباش وشردوهم وهزموا جيش أبرهة الأشرم وولده من زوجة سيف بن ذي يزن وقد تغلب عليه معدي كرب أخوه من أمه بالمبارزة خارج أسوار صنعاء وهدم القليس «الكنيسة الحبشية» واحتل صنعاء.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى