أبوبكر سكاريب..غنى للحب وللأرض والوطن

> «الأيام» أنور مبارك:

>
كانت وفاة الفنان القدير أبوبكر سكاريب مفاجأة وصدمة للعديد من زملائه ومحبيه وجمهوره العريض. كان قد تدهورت صحته قبل يومين من وفاته وتوفاه الله بهدوء في يوم من أفضل الأيام عند الله يوم مبارك وهو صباح آخر يوم من شهر رمضان الماضي. قبلها كنت قد تلقيت خبر نقله إلى العناية المركزة بمستشفى الجمهورية بعد منتصف ليلة 27 رمضان توجهت سريعاً بعد تلقي الخبر وكذلك في مساء اليوم التالي حيث شعرت حينها بسوء حالته الحرجة الذي يمر بها وبعد أداء صلاة الفجر نمت ولم أحول تليفوني المحمول إلى وضع (صامت) كالعادة تجسبا لأي طارئ ولم تمر إلا ساعات قليلة وفي الساعة التاسعة صباحاً رن جرس جوالي وكان في الطرف الآخر صوت ابنه الأكبر (محمد) يخبرني بالنبأ الأليم وبأن والده قد فارق الحياة قبل نصف ساعة كانت بيد المنون أسرع مما كنا نتصور إذ لا تتقدم هذه اللحظة ولا تتأخر وهذه حكمته وإرادته عز وجل، اتصلت بالزملاء من الفنانين والمعنيين في مكتب الثقافة وتم دفنه بعد ظهر اليوم نفسه.

وهكذا نكون قد ودعنا أحد رموز الغناء اليمني الذي ظهروا في العصر الذهبي للأغنية العدنية في الفترة المزدهرة من حيث الأعمال التي تتمتع بالأصالة في الكلمة واللحن والأداء.. وصديقاً عزيزاً دامت علاقتنا لأكثر من 38 عاماً.

بدأ فناننا الغالي أبوبكر سكاريب مشواره الفني مع فريق الكورس التابع للإذاعة والتلفزيون في النصف الأول من الستينات بعد أن كانت موهبته الفنية قد برزت معالمها في وقت مبكر من عمره ولم يولج المجال الفني إلا بعد أن تمرس وتشبع من خلال ترديده لأعمال رواد الغناء اليمني والعربي السائدة في تلك الفترة لذا لم يدم بقاؤه في الكورس إلا فترة قصيرة، وبعد أن نضجته التجارب انطلق صوته واسمه كالصاروخ بعد أول أغنية خاصة أعطيت له وهي (مرة لو تجيني) كلمات عبده علي سالم وألحان أحمد محمد ناجي، ثم عزز هذه الانطلاقة بأغنية (مش معقول) كلمات عبدالله عبدالكريم وألحان الفنان الكبير محمد مرشد ناجي الذي ذلل أمامه بعض المصاعب وأخذ بيده، ثم بأغنية (ياعيل ياطائر) كلمات عمر عبدالله نسير وألحان الفنان الكبير محمد محسن عطروش وتبعها بأغنية (جبل صبر) كلمات إسكندر عبده قاسم وألحان الفنان القدير يوسف أحمد سالم. لم يأت هذا الاهتمام من فراغ من قبل فنانينا الكبار الذين مدوه بألحانهم بعد أن وجدوا أنفسهم أمام موهبة كبيرة ولمسوا في حنجرته من المزايا المخلوقة والمكتسبة، صوت رقيق يطربك ويسمو بك إلى أعلى مراتب التذوق والنشوة ومن خلال هذا المزيج كون لنفسه طابعاً خاصاً وفناً مميزاً ينطق بشخصيته .

في نهاية الستينات مر فناننا الراحل بمراحل وظروف بعضها خدمته وبعضها لم تخدمه أبعدته فترة عن فنه وتشتت خطواته وأثرت في مسيرته الفنية وتنامي موهبته وتطورها ولكن لفترة حيث كان المبدعون في تلك الفترة يمارسون فنونهم كهواة وليس كمحترفين يعمل معظمهم في وظائف ليس لها علاقة بالعملية الإبداعية وكان فناننا الراحل قد تحصل على منحة دراسية للخارج في مجال تخصصه المهني وأبعدته هذه المنحة عن الأضواء ماعدا في فترات متقطعة حيث كان يستغل عودته للوطن في الإجازة السنوية ويطل برأسه على جمهوره قدم خلالها أعمالاً سجلت للإذاعة من ألحان الملحن القدير أحمد بن غودل منها أغنية (لو هجرتك) كلمات عبدالرحمن ثابت وكذلك أعمال وطنية من كامات الشاعر الرقيق عبدالله عبدالكريم وألحان الفنان الكبير أحمد بن أحمد قاسم.

وبعد تخرجه وعودته نهائياً للوطن في النصف الأول من السبعينات واصل فناننا العزيز الراحل نشاطه بقوة وشارك بالعديد من الحفلات والتسجيلات الإذاعية والتلفزيونية ومن أبرز هذه الأعمال: أغنية (سلامتك حُبيبي سلامة) كلمات القرشي عبدالرحيم سلام وألحان الملحن القدير محمد المحسني و(ياعواطف) و(أروى حياتنا) كلمات القرشي وألحان الأستاذ أحمد بن غوذل وأغنية (أهل الخير) لمدهش صالح، وبذلك يكون قد جدد شهرته وتواصله مع جمهوره الذي لم ينسه، وفي كل مرحلة تشعر بأنه يتجدد مع كل أغنية يقدمها يصلك صوته بسلاسة وبدون تكلف أو تباه، عنده حضور غير عادي على المسرح يسيطر على الجمهور المستمع من أول كوبليه بتعبيره الصادق ودفء صوته وإحساسه المرهف ويجعله يحلق مع الطرب الأصيل بنشوة لا حدود لها حتى إنهاء وصلته المميزة، وحتى إن صادف وغنى لغيره من الفنانين الرواد ومن سبقوه ومن أعمالهم الخاصة يكسو بصوته هذه الأغنية أو تلك وكأنها وضعت له ويضيف لها من أحاسيسه ووجدانه. وقد كان يقدر ويحترم قدرات زملائه في الفرقة ولذلك لم يتردد وبثقة قبول الغناء من ألحانهم وإن كان أقدمهم في عمره الفني حيث غنى لحنين للملحن الراحل عوض سليمان ولحناً للفنان عبدالله فضل ولحنين أحدهما وطني لكاتب هذا المقال، وجميعها مسجلة بالإذاعة. وهناك محطة مهمة في حياة فقيدنا الراحل فقيد الحركة الفنية أبوبكر سكاريب عمقت من روابطنا حيث جمعنا مشروع إبداعي وظاهرة ثقافية بالغة الرقي وهو تأسيس فرقة الإنشاد الوطنية التي تمسكت في اللحن والنغم بمناخ التراث والأصالة في الفن اليمني وشكات تواصلاً وتأصيلاً للماضي وتطويره والإضافة إليه فخلال وقت قصير استطاعت هذه الفرقة أن تعزز من موقعها جماهيرياً في الداخل والخارج، وربما كان أبرز حدث ثقافي في حقل الأغنية اليمنية شهدته نهاية السبعينات هو انتشار الأغنية الجماعية الراقية، بدأنا بستة أفراد وكلنا مطربون فرديون ومعنا فقيدنا الغالي ومن العناصر النسائية الفنانة القديرة فتحية الصغيرة ثم لحقت الفنانة أمل كعدل وغيرها، استقعطنا من طموحاتنا الذاتية ووهبناها لهذا المشروع الوليد، واجهنا معادلة صعبة في أن نجمع بين قمة الذاتية وقمة الجماعية ووضعنا أنفسنا في أقصى وأعمق وأكثر حيوية في عملنا الفني مع هذه الفرقة التي كانت جوهرة الحفلات والسهرات الفنية ولعبت دوراً بارزاً في نشر ألوان الغناء اليمني لكل مناطق اليمن وشاركت في محافل ومهرجانات دولية في الدول الشقيقة والصديقة كما قدمت الفرقة في السنوات العشر الأخيرة غناء جميع الأوبريتات واللوحات والفقرات الاستعراضية والعروض الكرنفالية في جميع المناسبات الوطنية ابتداء من أوبريت (خيلت بارق لمع) حتى عروض الذكرى (17) للوحدة اليمنية التي أقيمت في محافظة إب هذا العام. لم يتوان فقيدنا الراحل أبوبكر سكاريب في تقديم عصارة جهده وإخلاصه وتفانيه للفرقة التي هو أحد مؤسسيها حتى في أصعب ظروفه المرضية، كما استمر فقيدنا الغالي فقيد الحركة الفنية اليمنية يقدم أغانيه الخاصة غنى للحب والسلام وللأرض وللوطن، وهب كل عمره للموسيقى والغناء ولم يرض بغير الفن بديلاً، وخلال معايشتي له قرابة الأربعين عاما كان الصديق الصدوق وأخاً حنوناً كريم النفس ولمست منه الكثير من المواقف التي جسدت ميزاته الإنسانية ومحبته للناس .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى