وتلك الأيــام.. السلطة .. الخطاب والواقع

> برهان أحمد إبراهيم:

> إذا ما كانت اللغة هي وعاء الفكر ووعاء العاطفة، وهي الوسيط الأساسي الأول لأي تواصل اجتماعي، أو كما يراها البعض وسيلة للتنفيذ وطريقاً للعمل وقضاء الأشياء وليست تعريفاً لها.. وإذا ما كان (الجاحظ) قد أدرك قيمة الكلمة وأهميتها لما لها من دور عظيم في حياة الإنسان فنظر إليها بمسئولية وأمانة بقوله:

«اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعود بك من فتنة العمل».. فإن خطاب الأنظمة النرجسية لايزال متيماً بفتنة القول، فهو خطاب تلفيقي احتيالي صادر عن أنظمة تقول غير ما تعني وتظهر نقيض ما تضمر بوحي من منهج التضليل الذي تحتكم إليه في مخاطبة شعوبها بخطاب يغتال الكلمات بتجريدها من قيمتها وإفراغها من معناها مما جعل أثرها سيئاً في نفس متلقيها لإداركه أنها كلمات قد أجهدت واعتراها الوهن ففسدت نتيجة إفراط السلطة في تكرارها والعبث بمحتواها ففقدت حرارتها لتصبح كلمات باردة لا تثير في المجتمع غير مشاعر السخرية والإحباط.

ومن أمثلة تلك الكلمات السيئة الحظ التي يحلو لإعلام السلطة ترديدها كلمة (التنمية) التي صارت في الواقع تعني مزيداً من التردي في أنساق المجتمع كافة.. فلا تنمية بشرية ولا تنمية اقتصادية سوى كل ما يخالف معناها، من انحدار العملة ومن سوء الخدمات الصحية والتعليمية ومن تصاعد معدلات البطالة وتضخم ظاهرة التسول.

أما كلمة (ديمقراطية) فلم تعد تحمل سوى نقيض معانيها من قمع ومنع، ومن تضليل الوعي بتلوين الحقائق وتحريم مبدأ المكاشفة.. ديمقراطية بخطوط حمراء، تقهر الفكر وتجرم الرأي.. والحال ذاته مع كلمة (القانون) التي أضحت لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به في ظل جموح غول الفساد وتضخمه وحاكمية قانون القوة (سلطة ومالاً) فإذا بعبارة (دولة القانون) أو (سيادة القانون) نكتة تختزل الواقع المأساوي الذي تعيشه تلك الكلمة.

أيضاً كلمة (الوحدة) أخضعت قسراً لعملية إفراغ وإحلال بمشرط ثنائيات عقيمة (الأصل والفرع) وهراء عقلية (الأم والخالة) لتفقد معانيها في كل تفاصيل الواقع.

كذلك كلمة (استقرار) التي حولتها السلطة إلى معنى (استمرار) لتأكيد وجودها كقوة حاكمة دائمة يخضع لها المجتمع، ودون ذلك لا تمثل تلك الكلمة سوى ذريعة للسلطة لتبرير عنفها وقمعها بدعوى الخشية من الفتن والحفاظ على السلم الاجتماعي وحماية الوطن!

إذاً، هو خطاب يناقض بجلاء كل حقائق الواقع ليؤكد حالة انفصام السلطة بما هي فيه من اتساع الهوة بين ما تدعيه وتروج له وبين ممارساتها السياسية والوظيفية الناسفة لأي جسر يمكنه ربط حقيقة الكلمات بالواقع اليومي.. خطاب أشبه بجراب الحاوي لا يؤسس على المكاشفة ولا يبنى من مادة الواقع، لذلك لا دلالة له سوى كونه معياراً مثالياً لمعرفة حقيقة ما تنتهجه السلطة من نقائض خطابها المضلل؛ بأنها كلما تجملت في قولها، أساءت في فعلها على أرض الواقع.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى