لا جــدوى

> عبدالقوي الأشول:

> الحقائق تظل كما هي، لا يتجاوزها الزمن ولا وسائل القمع والعنف والترهيب، ولا تثني إرادة أصحابها السجون، ولنا في التاريخ عبر ناصعة تدل على قوة الحقيقة وقدرتها على تجاوز العراقيل والعقبات كافة.

كما أن الإرادة الجماهيرية التي تعلن عن وجودها الحي لا تنثني لمجرد اللجوء إلى الحلول التي تنتقي من يزعمون أنهم لسان حال هؤلاء، فلا سلطة أبوية على الحراك الجماهيري، وأي حلول تبدو متجاوزة مطالب هؤلاء هي غير ذات نفع.

هكذا يبدو حراك الجماهير معزولاً عن إيعازات السياسيين ومآربهم وغير متصل بسلطة القبيلة ورموزها بما لهذه الرموز من حضور لا يبلغ مستوى أن يكون لسان حال هؤلاء، والمداهنات التي تستهدف بصورة انتقائية بعضاً ممن يزعمون أنهم يملكون الشارع سواء أكانوا رموزاً سياسية أم قبلية تضر أكثر مما تنقع، بل إنها تشكل نموذجاً صارخاً لتبديد الموارد المهمة بغير وجه حق، بمعنى أدق ثقافة المجتمع خصوصاً في المحافظات الجنوبية تعدت منذ زمن بعيد شكل السلطات التي تنافس هيبة الدولة أو تحل محلها، ما جعل فكرة الخضوع للسلطة وهيبة الدولة والقانون فوق كل اعتبار.

مسلك ربما أوحى الولوج إليه عقب الاستقلال مشفوعاً بقدر من التضحيات المبالغ فيها وربما القاسية فيما انتهجت من معالجات تجاوزنا من خلالها سلطة ما يزيد عن اثنتي عشرة مشيخة وإمارة، ورغم قساوة المعالجة حينها إلا أنها أفضت في نهاية الأمر إلى تعزيز سلطة وهيبة الدولة ومكانة القانون، الوضع الذي يجعل من المستحيل بعد كل هذه العقود العودة إلى كنف سلطة القبيلة الأبوية التي يريد البعض اختزال طبيعة الحراك القائم ليكسب ود ورضا بعض رموزها التي لا تعبر في الأصل إلا عن نفسها، فعناوين الانتماء القبلي اليوم لا يمكنها أن تحل محل الدولة، كما لا يمكن التسليم بحل القضايا العامة من خلال صور الاحتواء لبعض هذه الرموز التي وإن حظيت بالاحترام إلا أنها ليست لسان حال الكم الجمعي بأي حال.

لا أدري لماذا تبدو العودة إلى مثل هذا المربع ملجأ البعض في هذا الزمن بالذات، أعني القرن الواحد والعشرين، المتجاوز بمفاهيمه العصرية أدوات الماضي وأساليبه البالية. وضع لا يجد معه السياسيون إلا التسليم بضرورة اتباع أفضل السبل لتحقيق الوفاق الاجتماعي الذي يفضي إلى المحافظة على نسيج المجتمع العنصر الداعم للاستقرار، وهو الطريق الذي لا يمكن تحقيقه بجملة معالجات انتقائية بأي حال من الأحوال، لأن فعل ذلك يبدو كصب الخل على الزيت إن لم يكن مسكناً وهمياً لاجدوى منه ولا نفع، فجملة المطالب الحقوقية القائمة ترتبط أساساً بمعيشة الناس ووجودهم، كحق العيش والعمل والحياة تحت سماء الوطن الذي تتيح العدالة لكل فرد فيه حرية الحياة بمعزل عن سبل الإرغام والإذلال والكبح ونماذج التمايز الفج الذي يعبر بصورة صارخة فجة عن الاستهانة بتلك الأصوات المعبرة عن رفضها وبغضها لواقع هو في الأصل معطى طبيعي لجملة سلوكيات وتشوهات جرى السكوت عنها والتغاضي طيلة السنوات الماضية حتى بدت متعذرة على الحل أو الحلول الترقيعية التي تكلف أموالاً طائلة والناتج أن لا جدوى من كل ما يجري.

إزاء ذلك لا تبدو هنالك خيارات متاحة أكثر من تحكيم العقل والمنطق، ما يدل بجلاء ووضوح على أن طريق الحل لا يأتي إلا باستهداف عناصر الفساد في منظومة الحكم أولاً على اعتبار أن ما تكشف هو ناتج جملة الأخطاء والتجاوزات غير المسئولة المسيئة للوطن ووحدته، أما أن يجري الالتفاف على تلك الحقيقة الواضحة إلى حالة تشنجية متحاملة على حراك الشارع فذلك لن يزيد الأمور إلا اندفاعاً صوب المجهول والتداعيات التي ستغدو مع الأيام خارج نطاق الحل، وأمر كهذا لا أحد يريد الوصول إليه في حال مجتمعنا الذي يعاني ويلات كثيرة وتعقيدات ومعضلات غير هينة يزيد من وطأتها تلك الحلول الارتجالية غير المنطقية التي لا تأخذ بالمسببات التي لا تخطئها العين. في حين يظل التوافق الوطني على مجابهة التحديات أمراً مستبعداً في ظل هذه الانقسامات الصارخة والحادة التي ستضع الجميع أمام منعطف لا يحسدون عليه إن عاجلاً أم آجلاً!

وبدون الإرادة السياسية الوطنية المحضة والمتحررة من التحسبات كافة لن نرى حلولاً واقعية لقضايا الوضع الراهن إلا إذا كنا نؤمن بالوهم والخديعة لذاتنا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى