لماذا تعادون قضية الجنوب

> أبوبكر السقاف:

> قبل نحو شهرين أعادت «الأيام» نشر حديث صحافي مع الأخ عبدالوهاب الآنسي كانت صحيفة «الخليج"»قد نشرته، وفي الحديث إشارة صريحة وواضحة تدرج ما يسميه الجنوبيون «قضية الجنوب» في إطار السياسة الإمبريالية والصهيونية التي تسعى إلى تفتيت العالمين العربي والإسلامي، وهكذا بخطوة حصان كما يقال في لعبة الشطرنج انتقل حديث «الإصلاح» إلى معاداة سافرة لآمال وآلام أهل الجنوب، وكأنه يجدد ذكرى التكفير التي شارك «المؤتمر» بها غزو الجنوب في العام 1994 تحت شعار امتد من شارع تعز في صنعاء حتى عدن «من جهز غازياً فقد غزا».

وقبل نحو أسبوعين حاضر الأخ اليدومي شباب الحزب، فإذا به ينبري للدفاع عن الوحدة، وهو دفاع يتحمس له صحافيون يجمعون ألوان طيف سياسي لا تعرف الوحدة إلا غزواً أو استعباداً، استيقظوا جميعاً ليعزفوا لحن الكراهية والظلم ضداً على الجنوب، وكانوا صامتين حتى هدد الجياع والمظلومون والشهداء الذين سقطوا في عدن والمكلا وردفان برصاص دولة وحدة 7/7/94 التي غدت أكذوبة مسلحة بصورة جلية لأول مرة بعد يوم النصر المجيد.

كان الأخ اليدومي هو الذي أطلق مشروع تهجين أهل الجنوب، وكأنه عالم بيولوجي يتقن فنون علم النسالة، (اليوجينية) وتجريبه على البشر كما فعل الفاشيون في ثلاتينات القرن الماضي. وهاهو في موقعه داخل «المشترك» يذكرنا أنه مثل السلطة «لا ينسى شيئاً ولا يتعلم شيئاً» كما كان الفرنسيون يقولون عن البوربونيون الأسرة المالكة في فرنسا قبل الثورة. وهذا الملمح هو الرباط المتين بينه والسطة القائمة وما تفعله هي في الميادين والساحات واستخدام الطيران في قمع المتظاهرين السلميين يقوله مسترخياً في كرسي محاضر فيتحد الكلام العنف بالفعل العنف.

إذا كان لاهوت الوحدة غير ديني عند بعض الوحدويين الدنيويين العلمانيين فإنه في الإسلام السياسي لاهوت مغموس في تفكير ديني يقوم بتديين السياسة وجعلها أمراً عبادياً، فالوحدة ليست شأناً يتعامل معه الناس بشروط عصرهم فتكون بذلك أمراً تاريخياً محكوماً بتاريخيته، وتقرر أمورها في إطار سوسيولوجيا السياسة وتصبح «فريضة شرعية، رغم اتهامات السلطة للمعارضة بأنها تقف خلف الدعوات الانفصالية» (سعيد شمسان، رئيس الدائرة السياسة في الإصلاح ، «الأيام» 24/11/2007).

ولأن الأخ شمسان يخاف من «الانزلاق إلى مراحل كارثية» (م.ن) فإنه يرى أن «القضية صارت معلنة وليست خفية، إن هناك أيادي تقف وراء هذه القضية» إذاً لم تعد المسألة استنتاجاً نظرياً عاماً في سياق دولي استراتيجي كما عند أخيه بل قضية معلنة.. ولأنه وحزبه يناصبان السلطة العداء يضيف «لكن حقيقة السبب الرئيسي يعود إلى فشل الدولة بمعالجات الإشكالات القائمة في البلاد، مما دفع بعض القوى الخارجية لاستثمار هذا الوضع والدفع به إلى الأمام» (م.ن).

ليس غريباً على تفكير ممثلي الإسلام السياسي أن يروا وراء كل فعل إنساني لا يتفق وتصوراتهم أنه من فعل الشيطان الذي يتخذ صوراً متعددة: الخارج، الاستعمار، الصهيونية، أعداء الإسلام، الكفار.. إلخ.. وصاحب هذه الكلمات لا يرى في الظلم العميم الذي يلف الجنوب سبباً كافياً لمقاومته، فلابد من أن يعزى الأمر إلى (أياد) خارجية، وهذا القول يضع الحزب المعارض بأجنحته الثلاثة كلها في تحالف صريح مع السلطة، ويتميز عنها بأنه يحمل راية التكفير وفكرة الفتوى الشهيرة التي لاتزال تتعفن في حلوق أصحابها. وخطباء الجمعة منهم يرددون منذ أشهر تأييدهم لـ «ولي الأمر» وتنديدهم بالمعتصمين المدنيين والعسكريين في الجنوب.

واستبدال «ولي الأمر» في قولهم السياسي بـ «أولي الأمر منكم» وإن كان يقوم على رأي معروف لابن حنبل، إلا أنه في الفهم السلفي- الوهابي أصبح أشد جموحاً وضراوة في خدمة السلطان المعاصر في البلدان العربية، وشعاراً مفضلاً لديهم من أقصى المغرب العربي حتى شبة جزيرة العرب. وهذا تفكير يدور في فلك الطاعة حتى عندما يعلن الرفض، فما رفضه في جوهره إلا امتداد للواقع القائم ومماحكات في إطار العصبية السياسية القائمة، فهو بحكم تكوينه وبالتعريف لا يملك مشروع إصلاح بلْْهَ تغيير حقيقي. إن الإصلاح بسلفييه وإخوانه وقبيلييه يكون وحدة مضفورة من الأمس وضلالاته، يوحدهم حنين قمص إلى الخلافة يراه السلفيون منهم ولياً للأمر أميراً يأخد السلطة بسيف الغلبة، ويقرنه الإخوان، كما جاء في بيانهم في مصر بمجلس من العلماء يضعونه فوق السلطات الثلاث كلها ويحرمون على المرأة الاقتراب من أي موقع له صلة بالسلطة العامة، ويقبل القبليون منهم بأية صورة على أن يكونوا هم الشعب والدولة، كما يتضح لا من مذكرات الأحمر الأب شفاه الله وعافاه، بل ومن الثورية الحمراء لأحد أنجاله ومحاربة الفساد عند نجله الآخر، وهم والنظام لحمة وسوى الفساد القائم على نهب الثروات في الشمال والجنوب، وإنما الخلاف على القسمة ووراثة النظام، ويهدفون من التأييد الشعبي في المناسبات لانتفاضة الجنوب السلمية إلى استخدام ضحايا الاستعمار الداخلي وقوداً لبلوغ مآربهم، ويشهد كل موقع منهوب أو ثروة مصادرة في الجنوب بالشراكة الأخوية الحميمة بين السلطان وعشيرته، وهم لا يفهمون الجمهورية إلا في هذ السياق وكذلك الوحدة، فهي غنيمة وبحجم دولة في حال الجنوب.

لقد كشر ذئب القبيلة والإسلام السياسي عن أنيابه بعد أن لبس مسوح الوداعة والمدنية والشعارات العصرية مدعياً بأنه في إطار المشترك قد تخلى عن الأيديولوجيا لصالح العمل المشترك، وعلى الرأي العام أن يودع عقله ويصدق أن حزباً سياسياً يتوحد بالإسلام هو الحل ويهتدي بنجمة الخلافة يحيد عن الأيديولوجيا الدينية. والسؤال هو ما موقف أحزاب المشترك؟ يبدو أنهم بدرجات متفاوتة وبشروط متفاوتة لا يتميزون بموقف صريح وقاطع في تأييد القضية الجنوبية، وبذلك يكونون في موقف ذيلي من النظام، ويشكلون كل على شاكلته احتياطياً مناسباً توظفه الدولة السلطانية في حربها ضداً على الجنوب، قد لا يذهب زعماء الأحزاب إلى الحد الأقصى فيعلنون استعدادهم للموت في سبيل الوحدة كما قال اليدومي، لكنهم مثله يجعلون من الدفاع عن الوحدة القائمة طريقاً مفتوحاً للحوار الخاص مع القصر الجمهوري.

الانتفاضة السلمية هي الاسم الجديد لقضية الجنوب بعد تسعة أشهر من الاعتصامات السلمية. انتفاضة بحجم الجنوب تعادل تاريخه وبشاعة الظلم الذي يصطلي بناره منذ 7/7/94 وشموله، ولذا فإن الانتفاضة ليست بحاجة إلى من يملثها من الأحزاب القائمة لأنها نشأت مستقلة عنها، وإن شارك فيها بنشاط حزبيون لاسيما من الاشتراكي، ولكن بما هم أفراد لم تستطع سياسة حزبهم في إطار المشترك منحهم راية يناضلون تحتها، وهذا في الواقع العربي السياسي كله ملمح يشهد على ما يسميه الزميل محمد السيد سعيد موت الرأي العام في البلدان العربية، فحتى قضية بسمو وعدالة القضية الفلسطينية لم تعد تحرك الناس. في تقديري أن الأحزاب أصبحت جزراً على صورة الواقع الوحدوي الاجتماعي بدلاً من أن تكون كيانات قادرة على الدمج الوطني بوساطة النضال، أي أن الجمهور لايزال في أفق السلبية الذي عرفناه، فالوحدة اليمنية كانت صفقة في القمة ولم تتأثر بأي ضغط من الجمهور الذي كانت مشاركته الوحيدة هي التصفيق بدءاً من التنقل بالبطاقة الشخصية حتى إعلانها دون استفتائه، وكانت هذه السمة تقتل التجربة- الصفقة، وها نحن نحصد ثمن تمثيل الطليعة للشعب، الذي يكون في غياب الممارسة الديمقراطية العملية والفكرية عملاً سياسياً خارج العصر.

إن جهر الإصلاح بالعداء خيار سياسي ليس له ما يبرره إذا كان فعلاً يحترم حق الناس في تقرير مصيرهم، ويبدو أن هذا غير وارد في الإسلام السياسي فالسياسة فيه ذات هرمية دينية تنتهي بالخليفة وهو ما يسمى المرشد العام أو أمير الجماعة. إن الانتفاضة السلمية لم تعاد أحداً فرداً أو جماعة أو حزباً أو كتلة حزبية، فذلك ليس من مصلحتها في شيء، ولكنها تتمسك بأهدافها. ونقترح الابتداء بتجديد الثقافة السياسة السائدة التي حالت بين الناس وبناء دولة بلْهَ أن تكون دولة حديثة وعصرية وديمقراطية، وهي حتى اللحظة تتوحد بعسكرة السياسة ورفض الدولة المدنية وجعل الجيش مصدر السلطات، وحزب الأحزاب والبداية والنهاية، وهاهم إخوتنا في الباكستان يكسبون نصف المعركة بإجبار مشرف على لبس البذلة المدنية، ويقسم اليمين الدستورية بها وفي ظلالها.

تغيير الثقافة السياسية أمر آن أوانه بعد أن ساقتنا إلى الفشل القاتل في كل تجاربها في البلدان العربية، فالدولة التي ورثت ذهنية الدولة السلطانة تعجز عن بناء الثقة بين «المواطنين»، لأنها لا تمثلهم جميعاً بل تمثل جهة أو فئة أو طائفة.

إن الأنموذج الوطني الذي تاق إليه عبدالله النديم عندما أكد قبيل مستهل القرن العشرين لايزال حلما «يا بني مصر، ليعد المسلم منكم إلى أخيه تأليفاً للعصبة الدينية، و ليرجع الاثنان إلى القبطي والإسرائيلي تأييداً للجامعة الوطنية، وليكن المجموع رجلاً واحداً يسعي خلف شيء واحد هو حفظ مصر للمصريين» ورأى في مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية التي فتحت أبوابها أمام الفقراء من التلاميذ المسيحيين والمسلمين وعداً بميلاد مواطن جديد «إنها تعلم الصغار الأخوة في الوطن، وتبعدهم عن التعصب الديني أو العنصري وتنشئهم على حب الوطن والإنسانية» (جريدة الأستاذ - ارجع إن شئت إلى عبدالعزيز الدوري التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي، ص 145).

حكم الناس برضاهم (هارون لايكي) أبسط وأعمق تعريف للديمقراطية، لقد علمتنا التجارب المرة أن تقديم صنم الوحدة أو الاشتراكية على حرية الناس يؤجل الوحدة والاشتراكية ويجعل النكوص المستمر سمة أساسية وملمحاً فاجعاً في حياة العرب السياسية، ولذا انحدرنا بانتظام مدهش من الجمهورية إلى توريث العرش الجمهوري، ومن نظام برلماني وانتخابات إلى برلمان الحزب الواحد والسلطة الواحدة والدولة الأمنية، تحول مرعب يناظر «مسخ الكائنات» أو تحولاتها كما في مؤلف روماني مشهور.

جاء رد المتحدثين باسم الانتفاضة السلمية وكأنه يرد أقوال قادة الإصلاح، وفي اليوم التالي لتصريحات الأخ شمسان، ولا أظنه إلا مصادفة، ولكنها جيدة.

«قضيتا هي الجنوب» وهذه التسمية الأخرى للقضية الجنوبية. «نرفض مجرد العودة إلى أحواش المعسكرات..» والذين جربوا ذاقوا الأمرين. «نحن جزء من الجنوب ونرفض كل توصيفاتهم لنا عبر الخطباء والعلماء.. كوننا انفصاليين.. نحن كنا دولة ولنا شعب وموروث ولذا نريد أن يقرر شعب الجنوب مصيره وحقه بنفسه» (د. عبده المعطري، «الأيام»، 25/11/2007).

إن ركام المصالح القائمة والغنائم المستدامة منذ 7/7/94 تحول بين تحقيق المطالب الحقوقية والتنفيذ، فهي في خاتمة المطاف تعني تنازل المنتصر عن نصره وتوحده به إلى درجة لا يستطيع معها أن يرى وجوده خارج هذا التوحد، أما ما فوق الحقوق والمرتبطة بالقرارات الأممية ورسالة الراحل العطار باسم القائم بأعمال رئيس الوزراء في 7/7/94 فلا يلوح أفق الحديث عنها وفيها إلا في إطار حق تقرير المصير، ومهما صعب التسليم به على الحاكم/ الحكام وعلى من هم على شاكلتهم ويمتحون من معين الذهنية نفسها فإنه قرار يفرضه تعذر الخروج من مأزق الدولة الآفلة بالوسائل نفسها التي صنعت بها الدولة مآزقها حتى وصلت إلى مأزقها الوجودي الأخير. يمكن أن يسمي أصحاب هذه الذهنية الأمر انفصالاً أو خيانة أو فتنة تقوض الشريعة.. فكل هذا لا يجدي فتيلاً، فالانفصالية موقف سياسي وليست جريمة أو كفراً، والتخوين لا معنى له في السياسة التي تقوم على المصالح، والفتنة هي الاسم الديني لموقف سياسي دنيوي شديد الضراوة، لا يضر بالحرية في أي من تجلياتها العصرية، فلا أحد يهدد دين ممثلي الإسلام السياسي، ولكن الحرية والعدالة تهدد جيوبهم، وهي في انتفاضها تعادل انتقام جيوب شركائهم القبليين. تحرر الجنوبيون من وهم الحل بالقطعة أو على مراحل، فرأس السلطة نفسه لا يقر بوجود قضية جنوبية، ولذا لا يستطيع حلها، فهي عنده «حالات» و«بقايا فتنة» 1994!!

ما أكثر التجارب التي فشلت وخرج الناس من أتون فشلها بالاعتراف بالفشل أولاً والبحث عن المخرج بعد ذلك، لأن الاستمرار في طريق الخطأ السياسي لا يجلب إلا الدمار وعنواناته ماثلة في حياتنا. فلنحتكم إلى مبدأ حق تقرير المصير ففيه الحل السلمي والبداية الصحيحة لطريق التطور العصري.

30/11/2007

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى