الجنوب .. تاريخ وجغرافيا وهوية سياسية أيضا

> أحمد عمر بن فريد:

> لا يمكن أن يمر أو يتجاوز هذا المقال , ذلك (المقام المهيب) الذي جسده مئات آلاف من أبناء الجنوب يوم أمس الأول في موكب تشييع جثامين أبناء ردفان ... أبطال وشهداء يوم 13 أكتوبر الماضي, فعلى قدر الحدث وضخامته ورفعته على مختلف المستويات والأصعدة من حيث الدلالة السياسية والاجتماعية والإنسانية العميقة له , فإنه وبنفس القدر والرفعة قد سجل لأبناء الجنوب قدراً عالياً من الوعي السياسي الخلاق, القادر على رسم معادلة سياسية جديدة, حددت أرقامها ووزنها وأهميتها من فوق تراب الجنوب الساخن وليس من وسط صالونات الترف السياسي العقيم, ففي تلك الملحمة الوطنية الكبيرة , برهن «الجنوبيون» للعالم أجمع أن لديهم «إرادة فولاذية» يراهن عليها جهة تحديد مستقبلهم المقذوف به عمداً إلى المجهول.. كما أن تفاعلهم على الأرض, يمثل في حقيقة الأمر ظاهرة (اجتماعية - سياسية) جديرة بالدراسة والتمعن والبحث, بالنظر لتفردها النوعي على مستوى الوطن العربي أجمع.. ولا أبالغ إن قلت على مستوى دول العالم الثالث بشكل عام .

وكنا نود في حقيقة الأمر , أن يشاهد العالم هذا العنفوان الجنوبي المهيب .. كنا نود لقنواتنا الفضائية العربية, أن تبرهن حتى على الحد الأدنى من الحيادية والمهنية , فتتواجد «كناقلة خبر وحدث» لا أقل من ذلك ولا أكثر.. كنا نود أن تسمح الديمقراطية المزعومة في هذه البلاد لمراسلي تلك القنوات بالمرور عبر نقطة دار سعد إلى موقع الحدث، لتكون العين الناقلة لذلك الحراك الجماهيري العظيم الذي كان يستحق بكل جدارة أن يكون متاحاً للمشاهدة, في أي بقعة من الأرض عبر النقل الحي والمباشر .. ولكن هذا للأسف الشديد لم يحدث, في حين كنا نشاهد في مناسبات عديدة تواجداً إعلامياً مكثفاً لندوات ومؤتمرات «سمجة» يصرف عليها مئات الملايين من الريالات من قوت الشعب الجائع, لتنتج في أغلب الأحوال.. زيفاً وعبثاً وطمساً وتشويهاً للتاريخ .

لكن عشمنا الكبير أننا قد أصبحنا اليوم في قرية واحدة, وبات ما يحدث هنا وهناك مكشوفاًً ومرصوداً على الأقل لمن يهمهم معرفة «الحقيقة» .. كما أننا نراهن أيضا على أن هذا الحراك الجماهيري الهادر لأبناء الجنوب , قد بدأ مشواره وليس العكس من ذلك كما يظن ويعتقد البعض, ولعل شاهد العيان الذي تواجد في خضم ذلك اليوم التاريخي الكبير , قد تعرف على الكثير من الحقائق الأكيدة, التي سطرتها الجماهير بكل صلابة وبسالة وتحد .. فلابد وأنه قد شاهد كيف كان تعاطفت الجماهير «غير المشاركة» مع الجماهير «المشاركة» في صناعة الحدث, وكيف ارتصت على الطرقات تطلق الأعيرة النارية الترحيبية في الهواء, وتنشد الأهازيج في حين وقفت النسوة على الطرقات نفسها ينثرن الورود على كل عناصر ذلك المسار الجنوبي المتجه نحو ردفان الإباء والشمم والكبرياء .

ومن خضم ذلك الواقع «الأكيد» حيث كنا نقف ونصطف.. فليخبرني أياً كان من الذين يحاولون «وهماً» و«كذباً» ومغالطة لأنفسهم, إن كان جميع ما حدث , ويحدث هنا وهناك لا يشكل حالة سياسية قلما سجل لها تاريخنا السياسي الحديث مثيلاً من قبل .. وليخبرني الإنسان ذاته, دون هروب أو قفز على الواقع .. ما هي عناصر تلك المعادلة السياسية الجنوبية الجديدة التي صنعتها الجماهير وأبرزتها على المشهد السياسي بشكل لافت وحاضر ومؤثر.. و ما هي دلالاتها؟ ...وليكن قليلاً واقعياً وبراجماتياً و ليعترف لنا بأن العنوان الأكبر والأبرز لكل ذلك , إنما يتمثل في عبارة واضحة وصريحة تقول للقاصي وللداني معاً «هنا الجنوب ... إن الجنوب حاضر وتلك رجاله .. وتلك تضحياته» .

لقد كنت أود في الحقيقة أن يكون حاضراً إلى جانبي يوم أمس الأول, ذلك السياسي المخضرم الذي تفتقت مداركه السياسية في يوم قريب وقال لنا في منطق موارب للسلطة : «عليكم أن تعلموا أيها السادة.. أن الجنوب الذي تتحدثون عنه, لا يوجد إلا في الجغرافيا فقط .. وأما في السياسية فلا وجود له» !! .. وعلى الرغم من ردنا عليه بكل ما هو دامغ وأكيد ومؤكد لتواجد «الجنوب» في السياسية وفي الجغرافيا معاً , إلا أنني كنت أتمنى لو كان حاضراً معنا لنجعل من عينيه شاهداً حقيقياً على تواجد الجنوب في السياسة, وعلى عظمة هذا التواجد وعنفوانه وقوته .. وحتى غطرسته.

إلى شهداء ردفان .. وشهداء الضالع .. وشهداء حضرموت , لكم منا سلام .. لكم منا أمنيات سمعتها بالأمس من أغلبية كبيرة من الشباب, الذين تحدثوا بنوع من الشوق ليكونوا أبطالاً في نفس مقامكم المهيب ... وعلى الرغم من علمنا بأن العدالة قد انتقلت معكم من صقيع الثلاجات إلى سخونة التراب الذي ضم جثامينكم , إلا أننا على يقين تام بأن دماءكم وأرواحكم قد قدرها أبناء الجنوب «حق قدرها» وبأنكم كنتم قمماً شامخة ستظل حاضرة في وجداننا , ومطلة علينا وأمام أعيننا كلما مررنا والتفتنا يساراً صعوداً إلى ردفان ... إلى تلك «التلة» التي حوت جثامين الشرف والكبرياء والوطنية .

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى