1911 .. الفطور بأربع بيسات وتذكرة السينما بآنتين

> فاروق لقمان:

> يسرد الوالد رحمه الله بعض ذكريات العقد الأول من القرن العشرين - قبل مائة سنة تقريباً والتحاقه بمدرسة البادري - كلمة إنكليزية من أصل برتغالي تعني القسيس - بالتواهي عام 1911. كما يذكر بكل خير بعض أبرز شخصيات عدن الذين عرفهم في ذلك الوقت منذ الصغر عندما كانت تذكرة دخول السينما الصامتة آنتين. كانت الروبية أو العملة الهندية السائدة في المستعمرة تتكون من 16 آنه وكل آنه أربع بيس - مشتقة من الكلمة الهندية بيسا المستخدمة في الهند حتى اليوم. كما كانت الروبية تتكون من 64 بيسه وهذه بدورها تتكون من ثلاثة آرادي - جمع آردي الذي كان قبل مائة عام يكفي لشراء شربة ماء صافي. يعني أنه كان نافعاً في وقت كانت الرواتب للدرجات المتدنية لا تتجاوز خمس أو عشر روبيات في الشهر في زمن كان العدني لا يتعدى المرحلة الابتدائية - أربعة فصول أو كما كانوا يقولون أربعة أبواك إلا نادراً وينخرطون في سلك الخدمة المدنية كمراسلين - فراشين لمن أسعدهم الحظ. وكافة المراكز الأخرى بيد المستعمر الأبيض وعملائه الذين استقدمهم من الهند خاصة بومباي وجوا. التجارة بيد تجار الأقمشة الهندوس والملاحة والبنوك والخمور بيد الفرس والوظائف العليا بيد الجوانيز نسبة إلى المستعمرة جوا التي كانت بيد البرتغاليين طبعاً بالتفاهم الإمبريالي المشترك كما كان الفرنسيون يحتلون ويستعمرون مناطق هندية على رأسها بونديشري. وقد انتقل الألوف منهم إلى فرنسا بعد الاستقلال كما فعل العديد من أهل جوا بالانتقال إلى البرتغال. ونال الكثير من المولدين - آباء إنكليز وأمهات هنديات - الجنسية البريطانية قبيل الاستقلال بأشهر واستقروا هناك. مثلهم صنع عدد من العدنيين بالسفر على لندن قبل الاستقلال للاستفادة من مهلة الأشهر الستة الأولى من سنة 1968.

يقول الوالد: «لما انتقلت مع أمي وإخواني إلى بير عمر عشت بين أخوال أمي الصيادين وبواسطتهم تعرفت على أبناء عدن الأصليين مثل بيت منصور داؤد وبيت علي بادر وبيت القعر وبيت الخدشي وعيال ناصر، سعيد ناصر ومحمد وثابت وكانت لي أخت اسمها نعمة، عمرها 6 سنوات أُصيبت بمرض وبيل ظننته ذات الرئة لا علاج له. والناس يلجأون للعلاج إلى الفقيه وحروزه والمحو والدعوات الصالحات , وأذكر أننا لجأنا إلى الطبيب الفارسي بلبودي والا في المرسابة ومساعده علي عبدالله (علي كبة) وكان يداوي أكثر الناس وينزل إلى بيوتهم وهو طيب القلب والنفس يركب الأدوية في المستشفى.

«أما المستشفى الأهلي فكان طبيبه الدكتور ماكري وهو قسيس طيب ولكن الناس كانوا يذهبون إلى مركب الأدوية (بادو الله) والمساعد عناية الفاضلين.

«وفي الشيخ عثمان كان الدكتور قسيساً أيضاً حاد الطبع رغم فضائله كطبيب.

«وماتت نعمة بعد 9 أيام وحزنت علي موتها حزناً لازمني طول عمري وقد بنيت قبرها بنفسي وواصلت زيارته إلى زمن قريب.

«كان سبب حزني الشديد أننا كنا نلعب معاً ونتسابق وفي خلال السباق تعثرت وسقطت وأُصيبت برضوض خفيفة وكانت كلما ذكرت سقوطها تنظر إلي معاتبة وبعد أيام مرضت ذلك المرض الرهيب الذي أودى بحياتها.

«ولم أستطع أن أنسى ألمها إلا بعد أن عرفت بعد سنوات طويلة من الأطباء أن مرضها كما وصفته لهم لم يكن ناشئاً عن رضوضها بل كان بسبب «النومونيا» الخبيثة التي لم يكن لها دواء معروف في ذلك الزمن.

«وفي عام 1911 التحقت بمدرسة البادري في التواهي وكانت الدنيا سهلة رخيصة، الغداء عند علي قهوالة بيسة روتي وبيسة سمن وبيسة فول وبيسة شاهي.

«والملهى الوحيد كان السينما الصامتة في البيت الذي فيه الآن قهوجي ومعهد الجوانيز وكانت الأفلام تُجلب من شركة «بانية» ورسم الدخول آنتين، وكنت أعرف الصرنج (ممول بواخر) محمد ناصر علي الذي تزوجت ابنته رقية بعد أعوام ومحمد أحمد شاذلي وطمبح وهاشم حسن والبديجي وكنا عدداً من الزملاء في المدرسة يوسف مسلم علي وعثمان شوالة وعبدالغفور فقير محمد وعبدالله حسن خليفة والفقيه أحمد، نذهب من عدن معاً عند الصباح الباكر مشياً على الأقدام وبعد قضاء نهاية الأسبوع في عدن نجتمع مرة أخرى لقيام بالرحلة اليومية وفي تلك الأيام بدأت السيارات «فورد كليش» تصل وتحل محل الجمال.

«وكان الجمالة (أصحاب عربات الجمال) يعيشون في بحبوبة أمثال أحمد صالح بن صالح والحاج عباد علي وحسن عبدالله صالح والدحماني وغالب الكدر وكان الدلالون في السيلة لبيع القصب والفحم والحطب أيضاً في خير ومنهم مسلم علي وشوطح علي ومحمد عبده الشيخ ولما بدأت الحياة تتعقد أصبح الناس بحاجة إلى من يحل مشاكلهم ويكتب لهم عرضحالات واشتهر بين كتاب العرضحالات حسين عبدالله هندي وعبدالله روبرتس (إنجليزي مسلم) وجوفند البانيان. وصالح حسن تركي وكان يسكن في قسم ف إلى جوار أحمد حسين عبدالرحمن النجار الذي كان من أقرباء أمي وكان فناناً مدهشاً فقد نقر على الخشب سورة (ق) على بابين لمسجد في اليمن وجاء الطلب من تعز وكان يستعمل الأزاميل الدقيقة للنحت والنقر ولو وجد وسائل التعليم الفني لكان من مشاهير رجال الفن.

«ولما كان الالتزام بالحجاب شديداً كان النساء لا يخرجن من بيوتهن إلا وقت صلاة الفجر عندما يكون الرجال مشغولين بالعبادة وكانت التقاليد تفرض على النساء عدم الانتعال فكن غالباً حافيات الأقدام ولكنهم بعد حين استعملن الجوارب والنعال ولم تكن مدارس للبنات قد تنامت وليس فيها غير تعليم قراءة القرآن الكريم.

«وفي تلك الحقبة بدأ القات الصبري التعزي والمقطري والشرو يصل بكميات أكثر وتضاعف عدد الموالعة (المدمنين) وكان يُباع بالحراج المربط بنصف ربية والخرشة بأقل من ربية وكان المحرجون الحاج ربيع والحاج رفعة وعلي ومحمد أولاد عبدالله اسماعيل والسادة محمد وعبدالله وعلي من آل السقاف وأحمد حميدان وأولاده وعوض بكير وكانوا كلهم أصحاب كرم ومروءة يبيعون القات سلف ويصبرون على الناس وكان المرق أحد أصحاب القات له دكان بجوار بيت ثابت سلام والناس عموماً أهل صلاح وتقوى وقد كان ثابت سلام طيب القلب كريم النفس وهو عاقل سوق الصيد كما كان محمد خليل عاقل سوق الخضرة ووكيل سلاطين لحج وكان علي إبراهيم الشيباني عاقل الخبازين.

«وكان في سوق الخضرة بئر وبركة نذهب إليها نغتسل في البركة المخصصة لتنقية الخضرة والمشرف على السوق السيد دنجي وكان رجلاً مسالماً وقلما اعترض على أمر لأنه كان قد شاخ.

«وكانت عرصة واسعة أمام السوق كنا نلعب فيها «الحيجو» أو الهوكي وكان أكثر اللاعبين من أولاد الصومال ومن بينهم إلية حاشي الذي زاملني في معلامة الفقيه عوض شمسان وذات يوم لعبنا الهوكي فضربني أحد الرفاق الصومال في ساقي عنوة وآلمني ألماً شديداً وبقيت جريحاً أياماً طويلة وما يزال أثر تلك الضربة على ساقي إلى هذا اليوم أما اللعبة فقد هجرتها ولم ألعبها منذ ذلك الزمن أبداً.

«وما أزال أذكر أحد الرفاق عند سوق اللحم بعد الظهر حين ذهبنا سوية نشتري لحماً كان يُباع الرطل بآنتين بعد أن يستكفي الناس، وكان رفيقي مؤذياً جداً وعند مفرش صالح عليوة قذف «حويس» بحجر وفر وركض حويس وقبض علي وكان معتوهاً بذقن مدببة طويلة بصورة مفزعة وأخذ يضربني ورفيقي يضحك علي وهو بعيد عني وهكذا تعلمت أن مرافقة الأشرار لا تأتي بخير فهم يقترفون الجريمة ويلصقونها بغيرهم دون مراعاة لصداقة أو معروف.

«ولما علم والدي رحمه الله بما حدث لي أخذني إلى حويس وأفهمه غلطه ولكن حويساً لم يكن يفهم وإذا كان العاقل لا يعترف بغلطه فما بالك بالمجنون. ومع ذلك استخدمه أبي ليذبح لنا كباش العيد وفي بعض المناسبات وكان أبي متديناً صالحاً ولكنه لا يؤمن بالخرافات والبدع المنتشرة في شكل حضرات علوانية وحسانية وموالد ونذور حتى أن يحي الجزار وكان مغنياً مشهوراً في سوق اللحم تحول إلى شيخ طريقة ولما سألته لماذا فعل ذلك قال: «إن أولياء الله حولوا المغاني عندي إلى معاني» وظل يقيم الحضرات إلى أن مات.

«وصار حويس بعد ذلك مسالماً ولم أعد أخافه وكان في عدن عدة مجانين بعضهم حُجز في مستشفى المجانين فوق الرابية المشرفة على مقبرة اليهود».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى