قراءة في المشهد اليمني..على عتبات النهوض..أم الانهيار

> د.هشام محسن السقاف:

> لا يغيب عن بال أحد أن اليمن مأزوم بتجليات هذا الاحتقان الذي يذهب بالشارع إلى مداه الغاضب من تراكمات الظلم وغياب العلاج الناجح على مدى عقد من الزمان، وتخبط محاولات الإصلاح، وافتقارها إلى رؤية وطنية واضحة تأخذ مداها في ترتيب أمور البيت الذي تهتز أركانه، انطلاقاً من المسببات وليس من النتائج. فالحرب المشئومة في 1994م كانت قاصمة الظهور التي أخلت بتوازنات الشراكة الوطنية لإدارة دفة التحولات اليمنية في إطار الدولة الموحدة، وتهيمن متنفذون وأوصياء جدد وإداريون فاسدون على مفاصل الإدارة في محافظات الجنوب، وأصبح النهب سيد الموقف من الأراضي إلى الوظيفة العامة، وأجبر عشرات الألوف على التقاعد القسري، وبذلك نجح هؤلاء الذين رفعوا شعارات الوحدة لإخفاء مآرب النهب المنظم- تماماً مثلما رفع اتباع معاوية المصاحف على أسنة الرماح لكسب جولة الحرب في صفين- في خلق حالة عدم ثقة بعيدة المدى في نفوس أبناء هذه المحافظات ما كانت موجودة في ظل التشطير. ولذلك فإن الانفصالي الحقيقي هو الذي سرق أحلام الوحدة اليمنية العظيمة، ودفع بالناس دفعاً نحو ركوب موجة المواجهة لكل ماهو قائم، انطلاقاً من حالات الإحباط والغبن التي أصابت قطاعات شعبية عريضة.. وكان حري بالعلاج الذي رأيناه من أعلى مستوياته الوزارية وحتى مؤسسة الرئاسة ممثلة بفخامة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح أن يبدأ من المسببات وليس من تضميد النتائج، مع التقدير أن فخامته بذل جهوداً كبيرة ومضنية من هنا من مدينة عدن، وحرك مياهاً آسنة في قاع مجتمع هذه المحافظات، وهو الجهد الذي يميز دائماً فخامة الأخ الرئيس عن سواه في اللحظات الحرجة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد أن غابت وتغيبت المؤسسات طويلاً بانتظار أن يأتي المنقذ في آخر المطاف. ولكن الخشية أن إجراءات العلاج قد جاءت متأخرة وفردية بالمقام الأول، وفي ظل تململ في الشارع اليمني يمتد ويتسع إلى محافظات الشمال كما هو في محافظات الجنوب والشرق، وفي ظل- وهو الأهم- تنامى التنافس المحموم بين تيارات وأطراف الطامعين في الحكم من قوى النفوذ المختلفة، وتسارع نغمات التودد إلى الجماهير المسحوقة، وخطب ود القوى السياسية والاجتماعية المختلفة وإبراز الذات كنقيض لما هو سائد ومنقذ للخروج منه.

في الورقة المحورية (اليمن الكبير.. تاريخاً وحضارة.. أرضاً وإنساناً.. ثورة ووحدة) نقرأ النص التالي:

(إن واحدة من معطيات وملامح أوضاعنا العامة اليوم تتمثل بهذا الدخان السخامي الأسود والسام الذي ينفث في وجوهنا كل يوم وعلى مدار الساعة والمتمثل بالخطاب المسمى- تجاوزاً- سياسياً وإعلامياً فيما هو في حقيقة الأمر دعائياً وتحريضياً ومعبأ بالتوتر والخصومة والعنف ومرتكزاً على الكذب والاختلاف والتدليس والتضخيم أو الإنكار، ولايستقيم ولاتربطه أي صلة إلا بمصالح قوى الفساد المتناسل والمتنامي بصورة غير مسبوقة في تاريخنا الحديث قد يكون العنوان الأوسع للتراجع والتدهور الشامل في الأوضاع الوطنية أو قد يكون أحد أبرز عناوينها، وإن وقفة استعراض وقراءة عابرة لمخرجات ذلك الخطاب بشقيه السياسي والإعلامي بعموميته ليكشف لنا دون عناء وبجلاء ووضوح عن المدى المفزع الذي يتخبط فيه بما يسوده من التناقض والهشاشة والتهافت والبعد المتنامي والشاسع عن الواقع ومعطيات الحياة اليومية المعاشة وعن الثوابت الوطنية والمصالح الوطنية العامة والعليا وعن الحد الأدنى المفترض من الموضوعية والمنهجية العلمية، ويجري كل هذا تحت شعارات الوحدة والديمقراطية والحقوق الدستورية والقانونية التي يزعمها ويدعيها الجميع من أصحاب السلطة والحكم والمعارضة والمجتمع المدني، فيما الحقيقة تقول إن شرعية الوحدة والديمقراطية والحقوق الدستورية التي جاءت إلى حياتنا يوم 22 مايو 1990م الميمون قد ذبحت من الوريد إلى الوريد وضاعت دماؤها- مجازاً- بين أطراف هذه الأوضاع الفوضوية المدمرة والعقيمة التي تنامت عبر مسيرة الأعوام التي بدأت باندلاع فتنة الحرب في صيف 94م، وعبرت خلالها وتجاوزت جميع المحاولات والنوايا الطيبة وبددت وداست على العديد من الإرهاصات والبشائر التي كان يمكن أن تؤسس لمنجزات ونجاحات واعدة. وبكل حرقة ألم وغصة حلق نقول إنه إذا ما استمرت الأمور كما هي فقد لايحتفل في العام القادم كما تعودنا أن نحتفل سنوياً منذ قيام الثورة بالأعياد الوطنية التي نحتفي بها هذا العام..).

وتضع الورقة مقترحات الإنقاذ التالية:

أولاً: إيقاف عجلة التدهور العامة والصراعات الثانوية

ثانياً: إعادة تنظيم ورص صفوف القيادات الوطنية بروحية يوم 22 مايو 1990م.

ثالثاً: إجراء أوسع وأشمل وأعمق عملية تقييم لمسيرة الـ (17) عاما بمشاركة جميع الأطراف وبالاعتماد على العلماء والاختصاصيين في الجامعات ومراكز الدراسة والبحث، وتحدد بمنهج علمي موضوعي أخطاء المسيرة وسلبياتها ونقاط الضعف التي سمحت بالتدهور المريع والنمو الفاجع للفساد، وتدمير الثوابت والقيم وإحياء النعرات الملكية والانفصالية والمناطقية.

رابعاً: الشروع بإجراءات فورية على ضوء التقييم السابق لإصلاح المسار والاتفاق على مرحلة انتقالية يتم خلالها تنفيذ جملة من الأهداف التي يتفق عليها برؤية وطنية موضوعية

وعلمية شاملة ومشتركة، وتشمل قضايا ومواضيع تتعلق بماضي ما قبل الوحدة وقضايا ومواضيع تتعلق بالحاضر من حيث استكمال وإصلاح بنية الدولة وتهيئة شروط الحد الأدنى في الاقتصاد والمجتمع ليكون مهيئاً للتفاعل الإيجابي مع الآليات والمبادئ الديمقراطية «البنية الاقتصادية والاجتماعية» وأخيراً قضايا ومواضيع ترتبط بالمستقبل تضمن الوطنية والاتجاهات العامة في المستقبل المنظور على الأقل. (المركز اليمني للدراسات التاريخية وإستراتيجية المستقبل، الورقة المحورية لموسم منارات الثقافي، اليمن الكبير تاريخاً وحضارة.. أرضاً وإنساناً.. ثورة ووحدة 30 نوفمبر2007م ص 22-21).

ولعلنا بحاجة للتأكيد على أن الحفاظ على سقف الوحدة وتجنيب الوطن مخاضات المجهول يتطلب سرعة العمل على تنفيذ الآتي:

-1 تقديم رؤوس الفساد للمحاكمة العادلة بغض النظر عن مناصبهم ومواقعهم الرسمية والاجتماعية، بمن فيهم رؤوس الفساد في محافظات الجنوب ممن استفادوا من اختلال الموازين بعد حرب 1994م وجعلوا من الوحدة فيداً ونهباً منظماً أدى إلى حالة الاحتقان الحالية وإصابة مفاهيم الوحدة- بما هي شعور وطني للعدالة والمساواة والكرامة تخامر عقول وطموحات شعبنا اليمني طوال فترات التشطير الماضية- بمقتل في ظل إتمام صناعة الحلم الوحدوي كحقيقة ناصعة في مايو 1990م لكي نعيد الثقة والاطمئنان إلى النفوس التي تزعزعت ثقتها بسبب الممارسات الخاطئة، والتأكيد على أن الوحدة بريئة من أفعال وممارسات قوى النفوذ والاستقواء التي أفرغت الوحدة من مضامين العدالة الاجتماعية، تماماً كما هو الإسلام براء من أفعال بعض المنتسبين إليه ممن يمارسون أفعالاً تتنافى مع مبادئ العقيدة السامية. وهنا يجب التنبه لمزالق أن تتحول لجنة مكافحة الفساد إلى جهاز بيروقراطي جديد إذا تهاونت في السير الحثيث على طريق تقديم كبار العابثين بالمال العام والفاسدين الذين تمت إدانتهم في تقارير أجهزة الرقابة والمحاسبة التي لايلتفت إليها، وعدم الاكتفاء بصغار الموظفين الذين يقدمون دائماً ككبش فداء نيابة عن الفاسدين الكبار ممن تجري العادة السيئة بترفيعهم إلى مناصب أعلى، أو أن نستغرق هذه الهيئة في الترويج لبراءة الذمة لبعض الوزراء وكأنه ماء التعميد المقدس لطهارة الدولة التي تحتل المرتبة 131 ضمن تقرير منظمة الشفافية الدولية عن الفساد في العالم.

-2 تشكيل حكومة وحدة وطنية من القوى السياسية المختلفة تنحصر مهامها في التحضير والدعوة لمؤتمر وطني شامل تحضره مختلف القوى اليمنية الفاعلة في الداخل والخارج ويتبنى رؤية وطنية وإستراتيجية شاملة لمعالجة كل الاختلالات التي أعقبت الحرب الظالمة في 1994م، والعودة بالوطن إلى روح ومضامين الوحدة الحقيقية التي تقوم على المبادئ السامية التي ناضل من أجلها الآباء والأجداد، وفي مقدمتها المساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، على أسس الوثائق الوطنية المتفق عليها، كوثيقة العهد والاتفاق، مبادرة فخامة الأخ الرئيس وبرنامجه الانتخابي، برامج الأحزاب السياسية والقوى الوطنية الأخرى.

-3 إقرار آلية الحكم الجديدة في اليمن على أساس اللامركزية وصلاحيات أوسع للأقاليم اليمنية، بما في ذلك الثروة والمصادر الأخرى، وانتخاب المحافظين ومجالس الأقاليم بما يمكن المواطنين في وحداتهم الإدارية من حكم أنفسهم بأنفسهم.

-4 حيادية مؤسسة الجيش والأمن وعدم تدخلها في العمل السياسي والحزبي وتشكيل وحدات أمنية داخلية في الأقاليم اليمنية ضمن معطيات الحكم المحلي كامل الصلاحيات، وتعزيز التربية الوطنية بين أفراد هذه الوحدات بالولاء الكامل للوطن والوحدة والحفاظ على السيادة الوطنية واحترام حقوق المواطنين باعتبارها سياجاً للحرية وحامية لنهج الديمقراطية في البلاد وليست أداة قمع ضد المواطنين.

خاتمة

إذا كانت لنا عبرة من قصص الأمم والشعوب الأخرى قريبة أم بعيدة، فإنني أختتم هذه القراءة العاجلة في مشهد اليمن السياسي اليوم بهذه الحكاية الغريبة والعجيبة التي حكاها لنا الأستاذ القدير سالم صالح محمد في (مقيله) الطيب عن أن أحد الضباط من أبناء يافع الأبية أوقف سيارته في المركز التجاري لمدينة خورمكسر (الشابات) وتولى أحد الأخوة الصوماليين تنظيف السيارة حتى يعود صاحبها، وبعد أن عاد وأراد أن يكافئ الأخ الصومالي نظير ما قام به من تنظيف لسيارته فإذا بذلك الصومالي يرفض ما قدمه إليه صاحبنا ويناديه باسمه ويذكره بإنه الضابط (فلان) من أبناء الصومال الحبيب، وكان زميلاً له في إحدى الأكاديميات العسكرية في الاتحاد السوفيتي (سابقاً) فتعانق الرجلان! وأصعد صاحبنا اليمني زميله الصومالي إلى السيارة، وأراد أن يعطيه مبلغاً من المال، فرفض الأخ الصومالي بإباء وأنفة وقال له: كنت أحد الضباط المناوبين للرئيس محمد سياد بري في فترة من الفترات، ولكنني الآن كما ترى بعد أن تمزقت الصومال!

إن للحكاية لعبرة يا أولي الألباب، ولكن ليس بجانبها الاختزالي الذي يجعلنا نترك فساد اليوم وفلتان الأوضاع ترتع وتمرع خوفاً من الصوملة، وإنما بالتصدي النابه والحاذق لمشكلات الوطن وحلها على قاعدة الحوار والديمقراطية والمصلحة العليا للمواطنين وليس الأفراد أو الجماعات.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى