مدينة المتاهات

> فاروق ناصر علي:

> «فلتحترق كل الرياح السود/ في عينين معجزتين يا حبي الشجاع/ لم يبق شيء للبكاء/ إلى اللقاء كبرت مراسيم الوداع/ والموت مرحلة بدأناها/ وضاع الموت ضاع في ضجة الميلاد/ فامتدي من الوادي إلى سبب الرحيل/ جسداً على الأوتار يركض كالغزال المستحيل..»

محمود درويش

مدخل خاطف مُر

هذا المقال بعنوانه كما جاء في صحيفة «الأيام» 1996/3/27 العدد (249) أعيده بدون زيادة أو نقصان.. الإضافة فقط في الشعر وفي هذه المقدمة -المدخل- والخاتمة.. والسؤال الآن لماذا أعيد مقالات قد مرت عليها السنون؟! سؤال سهل وجوابه مُر مرارة العلقم لكن سأبين هذا الجواب المر:

أولاً: لأن المقال الجديد اليوم سيجعل صحيفة «الأيام» فريسة لمراكز القوة والفساد المتربصة بها والرافضة أن أكتب في هذه الصحيفة منذ مدة طويلة جداً.

ثانياً: أبين لمراكز القوى والفساد ولمافيا الأرض والبحر والتاريخ أنني كنت وغيري واعياً لمخططهم الهادف (طمس هوية مدينة عدن) منذ زمن مبكر، وتاريخ المقال شاهد على ذلك وموجود لدى الصحيفة ولدى الكثير من الناس في عدن.

ثالثاً: زيادة في دعم جمعيات الحفاظ على (التاريخ وعلى البيئة... إلخ)، بوثائق مبكرة تفضح (مافيا) جاءت كسرب جراد مبيد، تأكل الأخضر واليابس، تهدم وتسرق وتنهب وتحرق، وتدعي أنها جاءت من رحم الحضارة ومن قلب التطور.

أيضاً دفعني إلى هذا المقال صورة (بج بن) الصغيرة والتي حجبها (قراصنة الفيد) محتلين مساحة واسعة من الأراضي العامة والخاصة، ومنزل أسرة الشهيد عبدالفتاح إسماعيل، وهم يهدفون حجب الساعة ونهب المساحة وبعدها نهب المنزل والأراضي العامة والخاصة المجاورة لها، لذلك القرصنة ماضية بمخططها (التتري المغولي) وزمن الصمت ضاع والخوف اندثر.. هو مقال قديم لكن هل ما توقعته حدث أم كنت و«الأيام» كاذبين؟ لست ضارب كف أو قارئ فنجان.. كنت أعرف معادن الناس ونوعيتها الرديئة، وكنت مدركاً لحقيقةالحقد الأسود الدفين على (عدن) الغالية، ولا يهمني في قول كلمة حق أي مخلوق خلقه الله، لا أخشى سوى خالقي، وحين يحصحص الحق أقول كلمتي لست مهتماً بمن كان معي، أو كان ضدي، قدمي ثابتة في الأرض كالأرض، ورأسي يشق عنان السماء، وها نحن الآن في نهاية عام 2007م هل توقف الفيد والطمس والتشويه أم مازال جارياً سارياً على قدم وساق؟!

المقال بدون زيادة أو نقصان

يارفيق الدرب إلى أين المسير؟ دربنا مازال موحشاً ومنعطفه خطير.. هل سيأتي الفجر غداً.. أم يبقى الليل مصير؟

العشوائية المجيدة لا تترعرع إلا في ظل (الفوضى والعبث) ومايجري اليوم هو نتاج طبيعي (للصمت) على هذه (اللعبة الخطرة) التي بدأت منذ سنوات واتخذت مسارها الخطير بدون عوائق، والنتيجة أن المدينة (عدن) التي توالت عليها نكبات الماضي والحاضر.. أصبحت (الضحية الوحيدة) لذا لم يعد يجدي تسميتها بالمنطقة الحرة أوالعاصمة الاقتصادية والتجارية أو ثغر اليمن أو أي تسمية أخرى، لأن القبح لا يولد الجمال والاسم لا يغير واقع الحال!!

كلنا نثور ضد القبح والتشويه، كلنا ننتقد، المواطن والمسؤول كلاهما يصرخان يطالبان بوقف هذا العبث وهذه الفوضى.. وجميعنا للأسف الشديد نبحث عن (من يعلق الجرس؟) بينما اللعبة الخطرة تمضي بكل هدوء إلى غاياتها الخطيرة.

إن مخطط (العشوائية) لا يرمي إلى التشويه فقط، ولكنه يهدف إلى إعاقة أي نمو حقيقي للمدينة، فعندما تحتل المساحات وتضيق المسافات وتعجز الخدمات تضيع العملية كلها، هل يعقل قيام استثمارات في الفضاء الخارجي المحيط بمدينة عدن؟ وهل يعقل قيام استثمارات جادة فوق قمم الجبال؟ هذا إذا بقيت قمم الجبال فاضية! إن الهدف واضح منذ زمن ولا يحتاج إلى لف أو دوران!!

هناك من لا يرغب في مواكبة ما يجري حولنا من تطور ونمو وازدهار ويريد (عدن) مجرد اسم لمنطقة حرة معلقة في الهواء، فكلما اتخذت الإجراءات الخاطفة ضد العشوائي والضعيف فقط.. تبرع الأقوياء بدخول الميدان وكسر شوكة الإجراءات وتغيير دفة الأمور لصالح العشوائي القوي وبقاء (العشوائية المجيدة) في قلب (المدينة الصابرة)..

والحقيقة المؤلمة أن المدينة (عدن) ستصبح (مدينة متاهات) لا تعرف رأسها من رجليها، تخرج من حارة حلزونية إلى شارع مخيف متعدد المسالك والمهالك، ومنه إلى كهف، ومن الكهف إلى جوف التنين!! ولأن «الصمت» يولد العجائب.. حينها لن نصل إلى المكان الذي نريد إلا بخريطة أو دليل، وربما يكون المكان الذي نريد هو الوصول لمنازلنا أو الذهاب إلى أعمالنا!!

أقول بحق وصدق ما لم يوضع حد حاسم لهذه (الدوامة) فلن نحصد سوى القبح والضياع ولن يشرق فجر التغيير الجاد أبداً.. أبداً..

27 مارس 1996م

الخاتمة

سيرى القارئ الكريم أننا وصلنا إلى أسوأ مما ذكرته، وإن ما كتبته -لو أعاد قراءة المقال من جديد - قد تحقق، لست قارئ فنجان لكن الواقع كان يكشف القادم، وعلى الجمعيات الرائعة -إن شاءت- إضافته إلى ما لديها، ولقد تبين أن صحيفة «الأيام» بدون قصد قد أصبحت حاضنة لوثائق تدين كل من غيّر -ومازال- هوية ووجه عدن.. والمنطقة الحرة مازالت معلقة في الهواء والعاصمة الاقتصادية والتجارية.. إلخ كلها مجرد دجل وهراء، والواقع الزمني ما بين المقال واليوم يكشف ذلك.. التاريخ لا يرحم مهما طال الزمن أو امتد أو قصر.. ولا شيء يبقى على حاله!!

ويبقى في الأخير قول الشاعر:

«وطني حبنا هلاك/ والأغاني مجرحه/ كلما جاءني نداك/ هجر القلب مطرحه/ وتلاقى على رباك/ بالجروح المفتحه/ لا تلمني ففي ثراك/ أصبح الحب.. مذبحه!»

محمود درويش

27 ديسمبر 2007م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى