تساؤلات في أبعاد «الثقافي» وفاعليته

> د.سعيد الجريري:

> لعل قراءة المشهد الثقافي لا تكون منتجة إلا بمدى بعدها عن لغة (المشايعة)، بأن يكون لها بعدها الثقافي المعني بالاستراتيجي في منظومة الفعل الجاد.

وتمهيداً لإنجاز قراءةٍ تلك صفتُها وغايتُها، فإن ثمة تساؤلات ملحة لا مناص من تأملها أولاً، قبل النظر في ملامح ذلك المشهد وتجليات قراءته:

- هل المسمّى بـ(المشهد الثقافي اليمني) مستوفٍ شروط المشهد حقيقة، أو هو مشهد ثقافي على سبيل الافتراض والتجوّز؟

- هل ملامح ذلك المشهد - حقيقياً كان أم مجازياً- ذات خلفية إستراتيجية أو هي تكتيكية المنزع والاتجاه؟

-هل لذلك المشهد بعد أو أبعاد (ثقافية)؟ أو بصيغة أخرى: ما مدى (ثقافية) ذلك المشهد؟

- ثم هل ثمة مسألة ثقافية في الجمهورية اليمنية؟

ربما تكون التساؤلات مستفزة، لكنها لا تتغيَّى الاستفزاز لذاته إلا بما هو باعث على قراءة غير مسترخية أو متراخية أو ذاهبة في جلد الذات أو المؤسسة أو السلطة أو الراهن عموماً.

أيكون منتظراً من القراءة أن تجيب عن تلك التساؤلات؟!

بالنظر إلى المحاور المقترحة في خطة مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة يبدو أن ثمة انسياقاً ضمنياً مع مفردات، يُعلِّيها إلى مستوى النظر والقراءة، وهي:(الإصدارات - الأنشطة- البرامج)، الموصوفة جميعاً بـ(الثقافية)، إن لم يكن يتواطأ مع مدى فاعليتها. غير أن محاولة الإجابة عن التساؤل الأول، المحيلة إلى (مجازية) التوصيف (الثقافي) كافية لأن تُسقط عن تلك المحاور تعريفَها (العهدي)- بمصطلح النحاة - ومسماها (الثقافي) - بلغة الإعلاميين - لتغدو مجرد (إصدارات وأنشطة وبرامج) مجردة من الصفة إلى حين.

فإن يكن الأمر كذلك، فإنما هو مقيس بمدى الفاعلية الثقافية، وهو الأمر الذي نذهب معه إلى ضفاف تساؤل آخر ملح: ما مدى حضور (الثقافي) وفاعليته في واقعنا ومحيطنا؟

وكي نجيب ينبغي لنا ألا نتغافل عن علاقة (السياسي) بـ(الثقافي) في جدليتها الخاصة، في ظل هيمنة السياسي على الثقافي، ومحاولة تكريسه واقعاً سوسيوثقافياً تذوب فيه فسيفساء المشهد المنتج ثقافياً. على أن من غير الموضوعي أن يُستجلى (الثقافي) من دون الفصل بين مستوييه الشاخصين المائزين: الرسمي وغير الرسمي.

وللإجابة عن التساول الثاني الخاص بالخلفية الإستراتيجية أو التكتيكية لملامح المشهد، فإن النظر يمتد إلى التساؤل الرابع عن (المسألة الثقافية)، ليفضي إلى القول بأن المسألة الثقافية غائبة حتى إشعار آخر، فما يزال بعيداً استشعار أهميتها، ما دامت تنمية الإنسان ثقافياً ليست في المتن أو الهامش من أية إستراتيجية(ولنتفق على تسميتها - مجازياً - بالوطنية).

ولعل من مفارقات البعد عن كل ما هو إستراتيجي النتائج إنسانياً أن مستويات الخطاب (ولا أقول التخطيط) عن التنمية يتعالى صخبها البراغماتي من دون أن يكون أساسها الأول استراتيجية ثقافية. الأمر الذي يعني غياب الرؤية المنهجية المنتجة ثقافة منتجة، مؤسسة على خطط، يكون موقع (الثقافي) منها في الصميم، وعندئذ يغدو للخطاب عن (التنمية) بمفهومها الواسع، معنى ومدلول.

هل نعود إلى التساؤل الثالث عن مدى (ثقافية) المشهد الموصوف بـ(الثقافي)أم هل ترانا أجبنا عنه ضمناً في درج الحديث عن التساؤلات الأخرى؟

ثم ماذا عن تجليات المشهد (أياً كانت صفته) في العام المنقضي 2007م؟

لعل الإشكال المحوري في هذا السياق أن المشهد في بعده (الرسمي) يبدو صدى باهتاً - في عز ضوضائه- للسياسي والأيديولوجي، ذا وظيفة براغماتية هي في أرقى صورها تعبير عن مأزق الوصل لا الفصل بين ما هو (ثقافي) وما هو (إعلامي).

ولذلك تبدو صورة المشهد في هذا الإطار منصوصاً عليها في قول الشاعر في إحدى أغاني فيروز:

وأنا لا علم لي وغدي

كل يوم بات يُرتَجَلُ

فهل على مثل هذا التصور تؤسس فاعلية إبداعية وثقافية أو حراك ثقافي حقيقي؟

وما دمنا في سياق (ثقافية 2007م)، فهل رُسمت فيه رؤية ثقافية نقدية (وواقعية أيضاً) ترصد ما آل إليه المشهد بتجرد؟ وهل وُضعِتْ خطة ثقافية (وطنية) استراتيجية؟

ليس من قبيل العمى الثقافي أن يقال إن 2007م لم يكن عاماً للإصدارات الثقافية، ولم تكن أنشطته الثقافية ثقافية متميزة، ولم تبرح برامجه الثقافية الإذاعية والتلفزيونية مربعها (الإعلامي النمطي) .

هل في هذه الإجابة المقتضبة غَمَطٌ لجهود بذلت؟. ربما. لكن القراءة ليست محتفية بالرصد (الإعلامي). ولذلك فلعل في النظر إلى الموضوع من زاوية العلاقة بين المركز والهامش، إنصافاً لتلك الجهود، من حيث إن المركز يعني المؤسسة الرسمية، والهامش يعني المؤسسة غير الرسمية (الأهلية والمدنية). وعنذئذ يتجلى بوضوح مدى الفرق بين أداء وآخر، وبين وظيفة وأخرى، وقبل ذلك، بين رؤية وأخرى ثقافياً.

فعلى مستوى الإصدارات الثقافية الرسمية ثمة تراجع مقلق، يوازيه تراجع مكافئ على مستوى مؤسسة إبداعية رائدة، كاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين قياساً إلى 2004م عام إعلان صنعاء عاصمة للثقافة العربية، بعيداً عن قراءة الإصدارات من الوجهة الفنية والمنهجية.

ولما للمجلات الثقافية من دور مهم، فإن الملاحظ أن الأوطان ذات الاستراتيجيات الثقافية تحرص على أن يكون لها مجلات منتظمة، فاعلة، متطورة، مواكبة، غير متعثرة، فأين - مثلاً - مجلة الوزارة (إن لم نقل: مجلاتها)؟، فمازالت مجلة الثقافة - برغم جهود القائمين عليها الذاتية العالية - أدنى من مستوى مجلة وزارة. ثم أين مجلة اتحاد الأدباء (الحكمة) انتظاماً وفاعلية وتطوراً ومواكبة؟ ولماذا تظل بمستوى مجلة فرع مستحدث من فروع الاتحاد، وهي مجلة ذات تاريخ؟ ولماذا التذبذب والإحجام؟

ولعل مجلة (غيمان) المستحدثة، الصادرة عن مركز الدراسات والبحوث، سجلت حضوراً في هذا العام، لكن ما يُخشَى هو أن يكون للفاعلية (غير اليمنية) دورٌ في صناعة هذا الحضور وتميزه.

ثم لماذا يُمركَز النشاط الثقافي على بؤسة، ولا تُجترَح خطة أو مشروع وطني لتنمية (الأقاليم) ثقافياً؟ فإن في اتجاه كهذا رفداً للفعل الثقافي بطاقات كامنة، وهو- من ثم - في العمق من الإستراتيجية الوطنية للتنمية.

ولماذا التذبذب في المهرجانات؟ وهل ثمة تقاليد ثقافية راسخة غير مؤطرة بالـ(شخصنة)؟ وهل ثمة مهرجانٌ قارٌ في أي منحى ثقافي (أدبي، شعري، مسرحي، تراثي، فلكلوري، فني، موسيقي، تشكيلي، سينمائي.. إلخ)؟ ولماذا يظل النشاط الثقافي تابعاً للهبات (المناسباتية)؟ وأين دور المثقف في توجيه الزيغ والعمى غير الثقافي؟

ولكن هل نأت المؤسسات الثقافية غير الرسمية عن نمطية وموسمية الأنشطة الرسمية؟ أحسب أن الإجابة غير سلبية إلى حد ما، ولكنها غير إيجابية كلياً. إنها تحاول وصلاً بالثقافي من حيث تحررها من وطأة الرسمي ومواسمه، فأفق الحرية أوسع، ومدى الرؤية الموضوعية أشمل. وهي في محاولتها إحداث فعل (ثقافي) ما، يُسجّل لها انتظام عملها المخطط والمبرمج، واهتمامها بالنوعي منه في أدائها. إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن الدرب مفتوح أو مفروش بورد الأحلام.

ذلك أن الثقافة منظومة متكاملة يترافد فيها الرسمي (الفاعل) بغير الرسمي، في عملية تكاملية، تنظمها رؤية إستراتيجية (وطنية).

هل أجابت القراءة عن تساؤلاتها؟ أم هل قرأت المشهد بموضوعية؟ أم هل تجاوزت إيجابياته المحدودة، ومدّت الطرف بعيداً في علاماته المؤرقة؟

من أوراق الفعالية الثقافية:«قراءة في المشهد (الثقافي) اليمني عام 2007م» في مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى