في الذكرى الثامنة لرحيله ..غاب عنهم وأدركه المحضار

> «الأيام» د.سعيد الجريري:

> منذ أن تفجّع أبو ذؤيب الهذلي من المنون ورِيَبها، والشعراء يقفون في مواكب تشييع أحبتهم وكأنهم يشيعون الوجود، حتى لقد قيل إن كل نص رثاء هو متناص مع أول نص في الرثاء معلوم من شعرنا العربي، نص أبي ذؤيب الذي استهله بقوله: «أمن المنون وريبها تتفجع؟».

والرثاء في ديوان الشعر العربي ذو خصوصية، لاسيما ما كان منه في الشعور بفقد الوالد والولد، والحبيب والرفيق، وتشخص في دربنا الخنساء ترثي أبناءها، والمتنبي يرثي جدته، وابن الرومي يرثي وليده، والقائمة تطول.. وترقى الرثاء من رثاء الخلان إلى رثاء الأوطان، كما هو بارز لدى الأندلسيين. وفي مسار تطور الرؤية والفن بدت على قصيدة الرثاء تحولات لاءمت روعة المركوم الشعري، حتى إذا أفاق الشاعر المعاصر لهج بقصيد انتظر منه المتلقي أن يكون فيه مختلفا عن سالفيه.

غير أن بين شعراء هذا الزمان من رأوا موقف الرثاء تزلفا إلى ذوي المرثي، فتراهم في كل عزاء يلطمون خدود المعاني حد خمشها، فأحالوا الرثاء ضربا من ضروب المجاملات الاجتماعية والمراسيم التقليدية.

ومادمنا في حضرة ذكرى رحيل الشاعر العبقري حسين أبوبكر المحضار، فإن في النفس ما يستوقفني أمام واحدة من قصائده البديعة التي باين فيها السائد، ولم ينسج على منوال المراثي التقليدية النمطية في شعرنا العامي، فهندسها بحذق وأحالها إلى لحظة أشمل وأعمق، ذات أبعاد تأملية في الوجود والكون والمشيئة - أعني (يا دمعة العين جودي عا حبيبي). ولو أن الشعراء تأملوها عميقا لما بتنا نستمع في كل تأبين إلى مراث تقليدية تنهال على كل راحل مؤلمة، لأنها لا توازي قامته.

وظف المحضار في هذه القصيدة المغناة ذات اللحن التفجعي مركوما من الشعور الحزين تداخل فيه الخاص بالعام، والفردي بالجمعي، والداخلي بالخارجي، والنفسي بالاجتماعي مفارقا ما درج عليه الشعراء العاميون من تقليد مستقر منذ المطلع حمدا واسترجاعا:

إعادة الفايت إلى حاله محال

لكن قلبي ما توقع في محله

لا جيت با نسّيه ذكره الخيال

وآثار بقيت بعد محبوبه وخله

وفراق من تهواه وحله

ما أطول الأيام بعده والليال

عا شوق ليلي طال

يا دمعة العين جودي عاحبيبي

خففي بعض الذي في البال

فالقصيدة تنطلق من يقين تمثله جملة صادمة خالية من أي فعل أو تحوّل أو تبدّل: (إعادة الفايت إلى حاله محال)، سرعان ما تضج الصدمة في وجدانه، فتبلبله، وتهز يقينه وثباته وإيمانه، فيسارع إلى قوله: (لكن قلبي ما توقع في محله) فـ (لكنّ) الدال على تبدل في التصور، مؤكد بما تلاه (قلبي)- والقلب إنما سمي قلبا لتقلبه وعدم ثباته- مؤكد بوصفه (ماتوقع في محله)، وبعدول المحضار عن استعمال (فؤادي)، فالفؤاد تؤدي معنى القلب، لكنها لا تؤدي معنى التقلب.

ماحيلته إذا وقلبه على هذه الحال؟

يحاول نسيانا. والنسيان يقين بمعنى من المعاني، وثبات وجمود عند درجة معينة، لكن تلك المحاولة أضعف من أن تقوى على حال التقلب والتبدّل: (لا جيت بانسّيه ذكره الخيال)..فليس قلبه وحده، وإنما هناك (الخيال) وهو فعل قلبي، يشعل الذكريات، ليترك الشاعر في (وحلة)، هي اليقين الآخر لإعادة الفائت: (فراق من تهواه وحلة). وما الوحلة؟. إنها أيام وليال طوال مشتعلة شوقا (ما أطول الأيام بعده والليال). والليال- واقفة على اللام الساكنة وليست الليالي- فعل إشاعة إحساس صوتي وتصوري بطولها، بالمد (الطول) الذي ماكنا لنراه إن هو قال (الليالي) بالياء، ثم بتوكيد المعنى (عا شوق ليلي طال)

فـ: إعادة الفايت ـــــــ محال

والفراق ـــــــ وحلة

وهما اليقين الثابت في مستهل النفثة المحضارية السخينة.

ولأن الإعادة حركة في الزمان، وتقلب القلب حركة في الزمان أيضا، فإن للزمان حضور قوي في وعي الذات المكلومة. إنه الدهر الذي يحاول معه تأويل ما حل به:

(قسا عليّ دهري)

جملة قاسية، فالدهر هنا دهره هو، والقسوة واقعة عليه هو، وللجملة المجملة تفصيل أقسى:

لقى بئس الفعال

يهوين كم قاسيت من دهري وفعله

غصبا سقاني المر من بعد الزلال

وفي معاداتي خطا حده وزله

إذا فثمة إجمال وتفصيل، الأمر الذي سوغ قوله بعدئذ مباشرة: (تفريق يعطيني وجملة).

فجملة القسوة (قسا علي دهري) وتفريقها (لقى بئس الفعال/ يهوين كم قاسيت من دهري وفعله/ غصبا سقاني المر من بعد الزلال/ وفي معاداتي خطا حده وزله)، ولعله أحس بأن تفصيله وبيانه ليس بكافٍ في الدلالة على قسوة دهره فوالى القول الأقسى:

وكم يدحرجها على رأسي جبال

أي قسوة أسطورية هذه؟! إن ما يدحرجه دهره ليس أحجارا أو صخورا، وليس جبلا، وإنما هو جبال، فأي رأس ذلك الذي يقوى على دحرجة كتلك؟! إنها قسوة لا معقولة، يغيب لها العقل. ثم تتوالى فصول القسوة وتداعياتها:

أيام لي نفحس يميني عالشمال

على حبيبي لي افترق شملي وشمله

فثمة لقاء وتوحّد (حيثما القسوة)، وثمة تفريق ناتج عنها، اليمين والشمال تلتقيان متحدتين (نفحس)، لكن (الفحس) ملمح من ملامح قسوة الدهر، وهو رد فعل على فعل (على حبيبي لي افترق شملي وشمله)، فالفراق واقع إلى درجة غدا معه لكل منهما شمل يفارق شمل الآخر تصويرا للشتات والتمزق والتفرق، ثم إن تلك الأيام لم تعد أياما معدودات، كما لعل العبارة توحي، وإنما هي الوقت كله (يمضي عليّ الوقت كله) في (زلزلة)، والزلزلة صيغة ومعنى تدل على التفرق والتشتت والقسوة، ولا حيلة له سوى الدمع المستديم من مقلته (سيّال)، وللدمع ملوحة تنسجم مع المرارة بعد (الزلال).

وتبدو المفارقة دالة على هذه القسوة الأسطورية التي تفقد الذات المكلومة فيها كل توازن: فالقلب متقلب، والعقل منه مال، وهو يفحس كفا بكف، ويمضي وقته في زلزلة، ودمعة مدرار!.. ما حيلته إذاً؟

يلوذ بالطيف مسترضيا إياه، معوضا به عن فقيده الميمون، مستجديا (جُد لي بالوصال)، فتنهض الآمال والأماني، إن بقي لها متسع ولو بحجم (وصلة):

يا طيفه الميمون جد لي بالوصال

بقضي معك إن عاد شي في العمر وصلة

ويلح عليه:

تعال سامرنا وأنسنا تعال

واشفي بقربك صوب في جوفي وعلة

إنها قسوة الوحشة في الزمان والمكان.. وكأنما خشي من (الطيف) تمنعا، فاصطنع له الوسائل (حتى ولو في حين غفلة)، موقنا بأن: (لحظة معك أحلى من الشهد الحلال وأغلى من الآمال)، أي أن طيف الحبيب الفقيد يصعد إلى درجة تعلو درجة الحبيب نفسه، إذ كان يسقى معه زلالا، فإذا اللحظة من الطيف أحلى من الشهد الحلال! هل نسي الشاعر أنه في مستهل تفجعه كان يشكو نكء الخيال: (لا جيت بانسّيه ذكره الخيال)؟، فكيف به يستدني الطيف هنا؟ فيرجوه أن يجود.. ألا يحاول نسيانا كما كان؟. النسيان جمود، والطيف والخيال حركة وحياة. أي أن الذات المكلومة بعد أن تتخطفها حالة الذهول والتقلب، فتؤثر النسيان، تعود لترى في الحياة البديلة بديلها الأجمل، فتنتقل من بلبلة إلى يقين، فمسار القصيدة من اليقين والثبات إلى التقلب، ثم إلى يقين وثبات آخر مختلف، فتنتفي صفة الخيال الأولى، وينفى الفراق، فإذا الطيف ميمون، وإذا اللقاء بالطيف أشهى وأحلى!، ثم يكون الاسترجاع والتسليم بالمقدور.

وهنا تكمن فلسفة المحضار في رؤيته وإحساسه بالفقد، بما هو تحول من حال إلى حال، بعيدا عن إعادة إنتاج المنتج في النظر إلى الفقد بالموت. إنما لماذا تظل هذه القصيدة هي التي تليق برثاء صاحبها، ويلوذ بها الناس كما لاذ هو بالطيف، إن كان لابد من موقف مماثل؟، أظن أن في الأمر دلالة على ما غاب عنهم وأدركه المحضار، فهل يدركه الشعراء ولاسيما العاميون؟، أظن أن في قصيدة سعيد بلكديش (ياقرية الخير قولي دان وترنمي) التي قالها في رحيل الفنان (علي سعيد علي) شيئا من ذلك، ولعلي واقف عليه في سانحة قادمة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى