بين السياسات والأسعار بن سليمان ما يرجع وراء

> أحمد يسلم صالح:

> ما تزال مشكلة تصاعد الأسعار تمثل الهم الحياتي الأول، جراء التصاعد الجنوني الصارخ الذي لم يتوقف عند حمَّى الأسعار، بل وتجاوز إلى ما يمكن وصفه بالهذيان، وهي المرحلة التي يفقد معها المريض توازنه العقلي والنفسي، مع فارق أن حمَّى المرضى كما حدثنا عنها حكيم زمانه (المتنبي) بقوله:

وزائرتي كأنَّ بها حياء

فليس تزور إلا في الظلام

بذلت لها المشارف والعطايا

فعافتها وباتت في عظامي

فكان أن بلغ الحال إلى ما يمكن وصفه بهذيان الأسعار، وهو الذي يأتي من غير مقدمات بلا خجل ولا وجل يعلن عن نفسه جهارا نهارا وعلى الملا في كل ساعة من ساعات الليل والنهار المتعاقبة.

وإذا كانت مشكلة تصاعد الأسعار، وسعيرها اللاسع واللاهب بات يؤرق الكل دولة وحكومة وشعبا.. لكن ميسمها ترك جروجا لا تندمل على المواطن الغلبان، وهو لا يلمس أية إجراءات للحد منها أو ترويضها..

وبالعودة إلى مجمل القوانين الاقتصادية المتعارف عليها كموضوع العرض والطلب، الكم والوفرة، المحلي والمستورد، فالأمر سيان كل هذا لا يغير من الحال شيئا، وهكذا لم يجد المواطن المسكين من حول وقوة أمامها سوى التسليم بالأمر الواقع، ناهيك عن جملة ممارسات مصاحبة كالغش والتزوير والتلاعب بالوزن والنوعية واحتكار السلعة..

معها باتت الحياة لا ترحم وباتت حالة غليان الأسعار لم تتوقف عند المواد الاستهلاكية، بل طالت الأدوية وإيجارات السكن ورسوم المواصلات والمنتجات المحلية أو المستوردة.. كل هذا يجد المرء نفسه بحال أشبه بمن خارت قواه وتهالك جسده، تحت ضربات موجعة، ولم يفهم من كل قوانين السوق ومتطلبات العرض والطلب سوى شيء اسمه ارتفاع مؤشر الأسعار صعودا صعودا حتى وإن اختلفت أو تبدلت الأسباب، فهي لم (ترجع وراء).

وهذا يذكرني بحكاية طريفة وجدت من المناسب أن أسردها هنا ومضمونها:

أن ابن سليمان وهو رجل معروف بذكائه وقوة بداهته في صنع المواقف الطريفة التي لا تخلو من حنكة ودها.

صادف نزوله أثناء قيادته لسيارته (اللاندكروزر) ذات مرة في منتصف الثمانينات- على ما أذكر- وفي نقيل فلاحة يافع الشهير رتل من شاحنات النقل البري نوع (فيات) وهي محملة بالمواد الغذائية والاستهلاكية المدعومة بأسعار ثابتة طوال أكثر من عشرين عاما.

ولما كان النقيل صعبا وحال العودة إلى (الرويس) أو الوراء أصعب، والحال يقتضي وفقا للعرف المروري (الحق للطالع) وجد من الصعوبة بمكان- على قلة خبرة- ربما بالرجوع سوى أن أوقف سيارته في وضعها، بل وأطفأ محركها، وترجل من سيارته جانبا بوجه يغلب عليه طابع الحزم والجد، وسط احتجاج سائقي الشاحنات وتعالي أصواتهم غاضبين من هكذا تصرف.. حتى باشرهم بالقول:

“ابن سليمان ما يرجع وراء” ولأن هيئة شخصه يكتسبها الوقار والهيبة، فضَّل السائقون مداراته أو إفهامه ومحاورته على الأقل بحقهم في الطلوع، إلا أنه أضاف قد سمعتوه عليَّ (حاوي )أي قسم، وعندما شعروا بكونه متصلبا وعند كلمته سألوه: “والحل يا ابن سليمان؟!” قال: “من عندكم” قالوا: “كيف؟” قال: “كلامي قد سمعتوه وابن سليمان كلمته وزنه؟ لكن خذوا مفتاح سيارتي وإذا أحد منكم يرجع بها وراء، أما ابن سليمان ما يرجع وراء حاشا”.

فتبدل الوضع من حال الشد والتلاسن والتهجم إلى انبلاج الأسارير والضحك لذلك المقلب الذكي، ومن يومها صار هذا مثلا متداولا معروفا بل وشهيرا يتم تداوله مثله مثل الأمثلة العربية المعروفة، مع حق الامتياز لمبدعه الشيخ علوي بن سليمان أطال الله عمره.

وفي الختام أجد من المناسب أن العبرة من هذه الرواية الطريفة في استحالة العودة إلى الوراء سواء بالأسعار أو حتى في بعض السياسات أو القرارات، فليس هناك أفضل من القول بمخرج كالذي ابتدعه (ابن سليمان) ولا ضير مادام هناك من بمقدوره حل ومراجعة معقولة تفضي إلى حل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى