> محمد علي محسن:

في يوم واحد بل في ثلات ساعات وجدت نفسي أتلظى بسعير النار وعذاب القبر ثلاث مرات، الأولى عند ركوبي باص الأجرة قاصدا مقر عملي، ففي ذاك الصباح الجميل استوقفت على عجلة من أمري تلكم الحافلة المزحومة بأصناف البشر ودخان السجائر الخانق للنفس، لا أحد في هذا البلد بمقدوره احترام آدميته وحياته، ولو في اختيار مقعد يجلس عليه لدقائق معدودة، فكيف إذا ما كنت واقفا في انتظار وسيلة مواصلات تقلك لمبتغاك! المؤكد أننا جميعا لانبالي بسوى الصعود، المسألة المهمة أننا نصل لا كيف سنصل للمكان المنشود! لذلك وكبقية الركاب المستعجلين دوما حُشرت مثل علبة سردين- بالطبع السعة في القلوب، والباقي معروف لديكم ولا داعي للحديث عنه- خيل لي أنني في القبر وليس في الباص خاصة أن المشهد كله لايومي بثمة حياة أو لناس أحياء، إذ الجميع في صمت أهل القبور، وكلما ارتفع صوت المبشر بعذاب القبر وأهواله المفزعة من مسجلة الباص زاد الركاب وجوما وفزعا وصمتا وموتا، ولا أدري هل مرد ذلك عذاب وأفاعي الخطيب أم أسباب ومشكلات أخرى؟ المهم أنني عشت معهم دقائق ولا في الكابوس المرعب، ولكم تصور انعكاسات الدقائق المروعة على بقية ساعات اليوم!.

وفيما صوت المسجل مايزال يخرم أذنى، حتى بعد أن أيقنت أنني لم أمت بدليل وجودي في مهمة صحفية، إذا بعزرائيل ملك الموت يلاحقني ثانية وثالثة، عدت قسرا لقائمة الموتى قبل دنو الأجل، أما كيف ومتى وأين؟ فلا تعجبوا إذا ما قلت لكم بعد ساعة أو يزيد من مغادرتي حافلة الموت، فلقد كان يوما آخرويا لاصلة له ألبتة بالحياة الدنيا، وفي مدرسة لتأهيل وإعداد النشء جيل المستقبل الذي نحسب أنفسنا نعلمه وننقش في مداركه وفكره سبل الحياة الكريمة الخالية من عقد الانهزامية والاستسلام والخنوع وثقافة الموت وكراهية الحياة، وإذا بواقع الحال يؤكد غير ما ننشده من قوة وقدرة ومكانة لهذه الأمة المهزومة والواهنة منذ غاب العقل أو الاهتمام بأسباب وأدوات الحياة!. معلم وخطيب جمعة في آن، كان لسوء الحظ من أشد خلق الله انصرافا عن مستوجبات النهضة والعمران، وجدته في تلك الأثناء يطلب من العبد الفقير مغادرة الدنيا للحظات، حيث تدرك رؤية الدرك الأسفل من النار وبينما القاعة المكتظة بالعمائم والذقون منشغلة بخلافات فرعية لاتؤسس لفهم صحيح للنصوص والمقاصد المؤكدة بحق الإنسان في الوجود وفي العلم والمعرفة والتعايش والتسامح كانت كاميرا التصوير اللعينة قد أخذتني لعذابات جهنم، وكلما حاولت النجاة بجلدي من سعير المعلم المعد لكل مصور دفعني إليه جبرا ودونما برهان أو دليل قاطع غير فهمه القاصر والضيق للدين والحياة.

المرة الثالثة كانت في السوق، وفي مكان يعج بالحياة، جمهرة من الناس حول كتب قديمة معروضة للبيع، سرني مشهد تدافع رواد السوق لشراء الكتب أيا كانت فكرية سياسية أدبية تاريخية طبية، اقتناء المعرفة دلالة لثقافة الحياة، لذلك ربما أردت العودة من الموت مرتين إلا أن وقع الصدمة كان كبيرا علي، إذ كل ما هو أمامي من الكتب ليس فيها عنوان واحد ذو قيمة وأهمية للأحياء، وعلى العكس من ذلك وجدتها جميعا تأخذني لعوالم السحر والشعوذة والشياطين، وإلى يوم البعث والنشور أو عذابات القبر، كتيبات لاحصر لها أو لون، لاشيء بداخلها يبهجك أو يحترم عقلك وحياتك وإنسانيتك. ثقافتنا للأسف ثقافة قبور محكومة بقبضة المتنطعين والمتزمتين غير المدركين لفداحة أفكارهم وأفعالهم على الحياة والدين والإنسان.