العم عمر : وصور من الذاكرة ...

> علي صالح محمد:

> حين يغيّب الموت إنساناً عزيزاً على أنفسنا نحزن بقوة ونبكيه بحرقة وتكون أحزاننا بحجم المساحة التي احتلها هذا العزيز في قلوبنا وعقولنا.

ولكن الأحزان تتضاعف أكثر حين يكون من فقدناه كبيراً في وجداننا وذاكرتنا بفعل أعماله المتميزة، وبحكم تميز أفعاله وعطاءاته الخيرة ، ليصبح في الواقع رقماً كبيراً ورجلاً مهماً للكثير من الناس، ومن هؤلاء الأعزاء كان فقيدنا الكبير الشيخ عمر قاسم العيسائي الذي وافته المنية وانتقل إلى جوار ربه بعد عمر حافل من العمل الدؤوب والنجاح الباهر والعطاء الخير .

حين بلغني نبأ وفاته لم أبكه كما فعل غيري بل أصابني الحزن الأبدي والفجيعة الدائمة ، لأنني في واقع الأمر سبق أن بكيته وهو لم يزل حياً وكان حينها على فراش المرض في لندن و لم يزل في وعيه المعهود وإدراكه المشهود، وذلك حين تحدثت معه وأخي سالم ونحن عائدان في الطريق من أبوظبي إلى دبي قبل ستة أشهر و يومها ظل يسألني كعادته عن الحال وعن أخبار البلاد وحال الناس متمنياً الخير للجميع.. وبعد الدعاء له بالشفاء ودوام الصحة و بعد انتهاء المكالمة ، إذا بي أجهش بالبكاء وبحرقة شديدة غير معهودة وأدخل في نوبة من البكاء المر، الأمر الذي أفزع الأخ سالم الجالس بقربي خصوصاً وأنني أقود السيارة في الطريق السريع ، فقلت موضحاً: أشعر يا أخي أن هذا هو الحديث الأخير مع العم عمر وأحس بأنني أودعه وأن هذا آخر حديث لي معه ، وأنا أبكيه لأنه ارتبط في مخيلتي كأب عزيز أكن له كل المحبة والاحترام منذ أن عرفته ، لأنه الإنسان الكبير الذي احتضن الجميع بقوة منذ تعرفنا عليه، ونثر حنانه الأبوي بلطف لا مثيل له ، وكيف لنا أن ننساه وهو الذي رافقنا بشخصه العزيز في لندن عام 1992 هو وولده العزيز محمد الذي اتصف يومها بكامل الخلق والنبل في المعاملة ولم يزل، لينتقل بنا من محل إلى آخر كأب عزيز يريد إرضاء أولاده بكسوتهم ليلة العيد ليحتفلوا سعداء ومبتهجين وهو ينتقي لهم أفخر الملابس وأغلاها، وهو ما يضاعف الشعور بالامتنان وبالمودة من يومها وحتى هذه اللحظة بهذا الإنسان الخالد أبداً في نفوسنا وعقولنا، وسيظل هذا التذكار الجميل الغالِي لإنسان كبير وكريم كالعم عمر الأب العزيز الذي إن غاب عنا جسداً لكنه لم يغب عن أرواحنا ولن يبرح الذاكرة المليئة بالصور الجميلة التي لا تمتحي، لأنه من الصنف الأسطوري النادر الذي صنع ملحمته وإمبراطوريته المالية العملاقة من العدم حيث خرج من بلاد العياسئ في يافع هارباً من سطوة جدته المحبة والحريصة عليه من مسايرة الأشقياء، ولما كان حلمه الكبير اتباع خطى أقرانه في الهجرة لتحقيق الذات فكان أن أفلت في لحظة غفلة من جدته الصارمة ليلحق بركب زملائه ليصل عدن بعد أيام من الجوع والعطش والإنهاك والتعب المضني .

حين حط بنا الرحال في جده إثر الحرب المشؤومة عام 1994 كان - بالنسبة لنا ولكل من وطأت قدماه أرض المملكة أرض الرحمن المباركة - كان الراعي الأساس والكفيل الأهم للآلاف من النازحين ممن كابدوا محن الفراق لديارهم وأهلهم ، وللآلاف من عائلات المقيمين بحكم مكانته الخاصة لدى سلطات المملكة.

في داره العامرة والمفتوحة يومياً للأهل وللأصدقاء وللضيوف من كل مكان، كان يستقبل بترحاب شديد كل أصدقائه وكل من يزوره لطلب أو لحاجة مرجوة، ولم أره يوما متذمراً بل سعيداً يمرح مع الجميع ويداعب بحنان كل الموجودين من جلسائه المداومين كالعم عبدالحي السيلاني والمرحوم محمد عبدالحافظ بن شيهون الذي سبقه إلى دار الآخرة بأسبوع، والعم حسين عبدالله العيسائي، والسيد عمر وسالم الحامد والشيخ صالح أحمد العيسائي وعبدالرحمن هائل سعيد، وعيدروس العيسائي ، وعبدالله بن عبدالله العيسائي، الذين يأتون لقضاء الوقت معه وبعد أن يتناولوا وجبة العشاء يتجه كل منهم إلى داره وهكذا كان الحال يومياً، وحتى حين ينتقل إلى لندن كان حضوره الكريم يزين كل الحضور .

لم تزل كلماته تتردد أصداؤها في جنبات الذاكرة وهو يقول معلقاً على حال النزوح وما آل إليه الحال بعد الحرب وهو يرى المهانة على وجوه الناس وهم يعانون (يا أولادي الموت أرحم للإنسان بدلاً من أن يرى الناس وهم يعانون) مردداً على مسامعنا الآية الكريمة ?{?وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم?}? لتخفيف وقع المعاناة و التمسك بالصبر لأنه خير علاج لمن فقد حقاً أو تعرض لأذى أو داهمته مصيبة .

لا أنسى حالة الإنصات الشديد واستمتاعه بسماع الأخبار عن الأهل والوطن حين أزوره قادماً من اليمن فكان يبادرني بالسؤال عن حال الناس والأهل، ولطالما ردد في كل لقاء حين أحدثه عن يافع استغرابه للعيش فيها بالقول (ماذا معاكم فوق هذه الجبال يا ابني وما فيها غير الحجارة ولا يمكنها أن تغذيك ولو ليوم واحد)، لكنه في الوقت ذاته كان ينصت بشغف وولع إلى الحديث ، وبالذات حين يشمل ذكراً للمواقع فإذا به فجأة وكتعبير عن حالة الحنين الخفي لتلك المواقع التي تركها أيام الصبا ، تجده يتجه بتلقائية المحب إلى الصورة الكبيرة التي تزين مكتبه الجميل ليشير بإصبعه إلى المواقع الكثيرة مستذكراً بقوة شديدة أسماءها و أسماء الناس الذين التقاهم في رحلاته يومها، ولطالما تكررت أحاديثنا عن ذلك لأكتشف ان أجمل الأحاديث لديه كانت تلك التي يعود فيها إلى أيام الطفولة والصبا، وصور المعاناة التي دفعته نحو الهجرة من أجل أن يعود ببندقية يظهر بها أمام الرجال معلناً أنه أصبح رجلا يستحق الاعتراف به كمقاتل في عرف القبيلة إلا أن عزمه وحظوظه حققت مدى أبعد كثيراً من أحلامه البسيطة تفوق الخيال .

كان في قرارة نفسه يحمل حنيناً خفياً وأشواقاً لا تحصى للمنطقة وكنا دائماً نردد على مسامعه طلبنا بأن يقوم بزيارة البلاد ولكم سعينا إلى إقناعه بذلك فكان يقول (مادام في العمر بقية سنزورها بإذن الله) وشاء الله أن لا يتحقق الوعد ولا الحلم وهذه إرادته عز وجل .

التقينا به كثيراً في جدة في منزله العامر وفي الاستراحة الخاصة الواقعة على كورنيش جدة الجميل وفي شقته الواسعة في لندن ولم أر فيه في كل لقاء سوى البساطة والعظمة معاً، كان بسيطاً في كل شيء وعميقاً في كل شيء، ليصبح مدرسة كبيرة بدءاً من التعامل مع البضاعة البسيطة وانتهاء بعلاقته بالملوك والرؤساء وكبار القوم من المشتغلين في التجارة أو السياسة ، ولم يكن يستثني من ذلك البسطاء من البشر بغض النظر عن انتماءاتهم الجغرافية أو مواطنهم على اختلافها، إذ لم يكن يميز المصري عن السوداني عن المغربي عن اليمني عن الياباني عن اللبناني فكانوا جميعهم حوله كخلية نحل تربطهم عرى المحبة والاحترام ومعاني التقدير الإنسانية. من ذلك ما رأيته بنفسي وسجلته عدسة (كاميرتي) وهو يستضيف الطلاب الدارسين على نفقته في لندن ، وكان ذلك في أحد المطاعم العربية فكان من ضمن ما قاله بالمختصر المفيد (يا أولادي تعلموا ففي العلم منجاة وخير كبير لكم ولأولادكم من بعدكم، واذا كان أحدنا قد نجح بلا علم فما ذلك إلا صدفة، لهذا لا تخيبوا ظننا فيكم، تعلموا واجتهدوا لتحققوا النجاح في حياتكم) . ومن واقع تشجيعه الكبير للعلم والتعليم كان موقفه الداعم لتأسيس كلية التربية والتعليم في يافع ليستمر وجودها مرتبطاً بقوة باسمه الكبير، ولم يقتصر الأمر على ذلك فإلى جانب عطاءاته الكبيرة أشهد أنه في الأعوام الأخيرة كلف الأخ سالم صالح محمد لمتابعة إنشاء سد كبير لحصر المياه في وادي بنا لتعزيز مشروع المياه القائم بعد أن تناهى إلى سمعه أن هناك صعوبات يواجهها المشروع، وبعد جهود كبيرة بذلت من جانبنا وبسبب من تلكؤ جهات الاختصاص بتقديم الدراسات المطلوبة ومرضه الذي داهمه وأقعده طريح الفراش لم يكتب النجاح للمشروع الذي كان يريد أن يقوم به من أجل ضمان مياه الشرب للمنطقة كلها .

وقبل أيام من وفاته وحين كنت مع الأخ العزيز الشاعر فضل النقيب في برلين لإجراء عملية القلب المفتوح اتصلت بالأخ العزيز الشيخ محمد عمر للسؤال والاطمئنان على صحة الوالد راجين منه أن يطبع قبلتين منا على جبين العم عمر طالبين من العلي القدير أن يأخذ بيد الوالد بحق آلاف الناس الذين يدعون له وبحق ما أسلفت يداه من خير، والمؤمن الحقيقي دائما مبتلى وممتحن. كانت هذه الكلمات هي ما نمتلكه للتعبير عن مشاعر المحبة والامتنان لهذه القامة السامقة وكانت آخر الكلمات إذ لم يمر يومان حتى سمعنا بالخبر المحزن بوفاة العم عمر.. وحين تزورنا الفجيعة ويسود الحزن نصمت لنترك للدموع حريتها وفرصتها في التعبير عن ذاتها.

رحم الله العم عمر رحمة الأبرار وأسكنه فسيح جناته مع الأولياء والصالحين وعزاؤنا إنه خلف أولاداً كراماً وهم سعيد وعبدالله ومحمد ومن خلّف ما مات.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى