دليل واقعي على تغير الوضع !

> علي هيثم الغريب:

> إن هذا العقد الأول من القرن الواحد والعشرين هو أثقل عقد في ميزان تاريخ الوحدة بين دولة الشمال ودولة الجنوب، ويكفي للاقتناع بهذا، الرجوع بالذاكرة لعقد إلى الوراء والتساؤل بصدق: هل كان توقع ما قلناه أن يصبح واقعاً؟!.. فمن الذي فرض الطابع المتفجر سلمياً في الجنوب على المطالب الحقوقية المشروعة في العقد المنصرم؟! أعتقد بأن ذلك كان بسبب عنصرين أساسيين هما: الشعور بأن الجنوب يجب أن يستباح بقوة، ويذل أبناؤه بسرعة، ويتم فصل المواطن عن أرضه وأملاكه، وبل ويتم فصله عن وطنه الأم الذي ولد عليه.. هكذا جمد الجنوب بالكامل بعد حرب 94م، وكبلت إرادة وعقل الإنسان فيه من خلال هجمة إعلامية وأمنية وقضائية فظيعة.. وهذه الفلسفة الشاذة كانت صحيحة لو أن الشعب لم يكن شعب الجنوب، ولو كان المواطن الجنوبي هو ليس ذلك الإنسان الذي كان له في التاريخ القديم والحديث خصائص طبعت فيه بطابع واحد، وهو طابع المدنية والتحرر والاستقلال عن أي نفوذ خارجي، فعندما كانت تتعاقب عليه موجات همجية متعددة لتحطيم حضارته وإزالة كيانه كانت النجدات تأتي إما من حضرموت إلى عدن وإما من عدن إلى حضرموت.. ولم تستطع تلك الهجمات أن تمزق الجنوب إلى دويلات كثيرة ومختلفة، كما حصل في أكثر من قطر عربي بما فيه القطر الشمالي.

وبقيت في وجدان كل فرد منا فكرة ثابتة لا تمحى عن ماضيه وحاضره.

وترسخت أصول أبناء الجنوب من المهرة إلى عدن ترسيخاً أبدياً، وخطوا في تاريخهم الإسلامي والإنساني صحائف بارزة من القيم والأخلاق أوصلتهم إلى كل بيت وحي في شرق آسيا وغرب أفريقيا.. ولكن فجأة وبسبب تجربة القرن العشرين القاسية التي أعطت الأولوية للمبدأ الإنساني العام، فالشعور ليس بالوحدة اليمنية والعربية بل وبوحدة الجنس البشري.. ورغم أن بعض الإنجازات كانت معقولة ولكنها انتهت بنهاية الحرب الباردة.

دخل الجنوب بعد حرب 94م تحت تأثير قوى همجية، تعمل فيها قوانين وأعراف لا نعرفها، وكانت عملية اعتياد الجنوب عليها موجعة ومستحيلة، مثل احتكاك رصيفين ضخمين يحمل كل منهما أثقالاً مختلفة.

وفي ذلك الوقت - بعد عام الحرب الشاملة- حذرنا من تطبيق تلك الأوهام والتخيلات على الجنوبيين.. وحذرنا من دفن ثقافة الوحدة التي تكونت إبان حكم الحزب الاشتراكي للجنوب.. ولكنهم أبوا واستكبروا.. حتى عرف أبناء الجنوب أنه لا يكفي الإصلاح أو حتى التفكير، بل يجب تغيير كثير من التركيبات الاجتماعية في الشمال وأشكال تنظيم الحياة هناك وأخلاق التملك، الأمر الذي يعني بعث التغيير في كل الخلايا، وهذه المهمة أكثر تعقيداً بكثير.. ومع الأسف لقد اعتقدنا بعد حرب 94م أنه من الممكن لنا تحقيق ما نسعى إليه من أهداف من أجل إصلاح الوحدة في إطار القضية الجنوبية، على أساس أن أحزاب المعارضة في صنعاء لن تتجاهل مطالبنا، لأن مطالبنا السياسية التي اتبعناها كان لها أثر مباشر وجيد في برامجها.. ولا مناص لها من التجاوب معها، ودعونا في مقالاتنا وندواتنا تلك التي ذهبنا بسببها إلى المعتقلات والسجون والمحاكمات أن نلتقي مع القوى الشمالية الخيرة في جو من الأخوة الصادقة، لوضع حل للقضية الجنوبية يعبر عن طموحات أبناء وحدة 22 مايو جميعاً بدون استثناء..وإذا توحدنا حول القضية الجنوبية فسوف نكون قوة لا تقهر. إذن فنحن لم نخذل المعارضة في صنعاء، ولكن هي التي خذلتنا.. ولم تساعدنا بشيء يذكر في صد الظلم والعنف الذي تمارسه الدولة ضدنا، أو حتى في التعاطف معنا، ماعدا بعض الأقلام الشريفة التي لن ينسى الجنوبيون مواقفها.. هذا الظلم القاسي وضع أبناء الجنوب أمام خيارين لا ثالث لهما: الاستسلام أو الرفض، وبما أننا شعب لا يستسلم فقد اخترنا الرفض بكل ما لدينا من وسائل سلمية ومشروعة للدفاع عن شعبنا وتاريخنا وهويتنا.. ومن أجل أن نعيد القوى الحاكمة إلى رشدها قبل فوات الأوان.

وبعد تلك المحاولات من قبلنا لإزالة آثار الحرب التي فرضت على الجنوب في وقت نادر من المستحيل أن يتكرر بعد مسيرة التصالح والتسامح، وجدنا أن كل الوعود كاذبة وخادعة.. وأنهم يريدون أن يحولونا إلى عبيد في وطننا، نقيم على ترابه ولا نملكه.. ولا يوجد لنا قرار في مصيرنا بقليل أو كثير.. وبدأت الأكواخ الوضيعة تنتشر ليعيش فيها شباب الجنوب الذين يعملون في مزارع لصوص الأرض وهم يحلمون بالجامعة، ويتنفسون هواء التجهيل الذي فرض عليهم.. وهدرت تطلعاتهم جرياً وراء لقمة العيش.. وانتشرت المظالم وانطلقت في كل بيت من أرض الجنوب تنهيدة جماعية واحدة وعميقة، ونزل المتقاعدون العسكريون والأمنيون ومعهم الشباب إلى الشوارع بعد 13عاما من الطغيان والاستغلال والظلم الذي ألحقه دعاة الوحدة بأبناء الجنوب.. فلم تجد أجهزة الدولة من وسيلة لمواجهة الاعتصامات والمسيرات المسلمية سوى إطلاق الذخيرة الحية على المواطنين العزل، وهذه الطريقة البشعة في التعامل مع المواطنين لا توجد إلا في اليمن وفي ظل الوحدة.

لقد دأبنا في تلك الاعتصامات الكبرى و(مسيرات الغضب) على المناداة بإعادة أراضينا، والكف عن نهب ثرواتنا، وابتعدنا عن كل عمل من شأنه أن يوسع الهوة بين الشمال والجنوب، التي عمقتها السلطة بالاشتراك مع أحزاب اللقاء المشترك في صنعاء.

ولكن الحقيقة المرة هي أن تلك الأعمال الحريصة على وحدة 22 مايو لم تجلب على أبناء الجنوب شيئاً سوى المزيد من نهب الأرض والثروة والتوجيهات الأمنية القمعية، بل والمزيد من الحرمان من حقوقنا.. والأمثلة كثيرة على ضياع كل حقوق أبناء الجنوب سواء أكان في صنعاء أو عدن.

كل هذه الأمور التي ذكرناها تؤكد مقولة «الوحدة المعمدة بالدم» أي أن الوحدة هي كيان قام على القسر؟!.. وهذه النظرة إلى الوحدة قد ترسخت في الإدراك الشعبي والسياسي الشمالي - مع الأسف- باعتباره انتصاراً كبيراً للوحدة. ولكن في الجنوب توجد نظرة عكس هذه، وهي «وجود الجنوب الذي احتل بالقوة». وهاتان الطريقتان في فهم الوحدة لا تساعدان إلا على السير بالوضع الداخلي إلى مأزق النظام نفسه.

وإن نظرة «الجنوب المحتل» تستحق إما دحضها بصوره دامغة أو تقبلها ولو بشكل عصري والبدء بالحوار من موقع جديد مع أبناء الجنوب يتم خلاله التعبير عن إرادة الجنوبيين علناً وبشكل شرعي وقانوني.. وهو الحق الذي حرموا منه عام 90م.

ولا يدور الحديث اليوم في هذه الحالة عن السعي المجرد إلى المساواة بين (المركز) و(الجنوب) بل أنه يدور حول اكتساب شعور (سيد الأرض) وشعور الانتماء للوطن وتصطدم هذه المشاعر بجدار النهج الممركز والمتوارث.

لهذا فإن الاستنتاج الرئيس هو أن الوضع في الجنوب يسير بشكل عام خارج مجرى أعمال السلطات الثلاث برغم كل شكلياته.. وأن عدم طرح (حرب صعدة) في جدول أعمال الحكومة والسلطة التشريعية والبرلمان له في الجوهر نفس المصير بالنسبة للوضع المعروف في الجنوب.

وعلى هذه الصورة فإن الداخل والخارج يلاحظ مجرى تشكل الوضع الجديد ومستقبله الواضح الذي يكمن إما في دولة ديمقراطية يعترف فيها بحق أبناء الجنوب (أرض، ثروة، هوية) وإما دولة ذات نمط عسكري قبلي، وتعتبر آخر مسمار يدق في نعش وحدة 22 مايو 90 السلمية.

وهنا لابد من الإشارة إلى واحد من الأسباب الرئيسة لاحتقان الجنوب وهو عدم إعادة كل الحقوق والأملاك التي نهبت في الجنوب، وطرد من الوظيفة أو التسريح الإجباري برواتب ضئيلة تسمى رواتب التقاعد، ونزاعات وقتال على الأرض وسوء استخدام السلطة لحماية نفسها، والتعب من الانتظار الدائم لإعادة أملاك أبناء الجنوب، وانعدام الأمل بالكامل، ولم تحل أي معضلة من تلك المعضلات، بل بالعكس تطرح قضايا جديدة على أبناء الجنوب، لكي ينسوا قضاياهم الأولى.

وهكذا تراكمت مشاكل كثيرة، وإن عقدتها في «سلة واحدة» فإنك لا تحل أية واحدة منها، بل ولا تعرف من أين تبدأ البحث عن الحلقات التي تحتويها.

وإذا كان عام 90م هو حتمي لظروف تلك المرحلة التي لم يكن يوجد أي خيار فيها بالنسبة لقادة الحزب الاشتراكي أيا تكن الزاوية التي تنظر منها، ولكن ذلك الخيار لم يعد صالحا الآن، لأن الأوضاع تغيرت وفق حتمية تاريخية، ولم تعد وحدة 7 يوليو تمتلك أي شيء مشترك مع الجنوب، عدا القيود التسلطية وكذلك أعمال التنكيل التي طالت بصورة أساسية كل أبناء الجنوب.

وأعتقد أن تغير الأوضاع بهذه الحدة على مستوى الجنوب وعلى مستوى الشمال هذا لأن النظام الذي تشكل بعد الحرب على الجنوب وضمه بالقوة والعنف نشأ خلافا ً لقوانين التطورات الاتحادية التي يكون فيها التراضي والتوافق تعبيراً عن إرادة الشعب..

وقد خلفت الحرب سياسية أخرى تخضع بنهجها للأفكار الإمامية والقبلية المتوارثة في الشمال، وبهذا النهج لا يمكن أن يجتمع الشمال والجنوب.. لأن الجنوب أصبح آلياً في خانة الفقراء.

الجانب الآخر والمهم في تغير الأوضاع هو أن النضال المشترك الذي جمع مواطني الشمال والجنوب في حقبة الحرب الباردة لم يعد له اليوم وجود، بحكم موقف الأحزاب والقوى الوطنية الشمالية مما يجري في الجنوب، الذي أدت به الظروف إلى تشكيل قوى سياسية جديدة لا تربطها أي رابط بقوى الشمال.. بسبب الانحلال التام لأشكال (المساعدة النضالية) التي كانت موجودة قبل الوحدة، وكذلك بسبب ما احتوته الحجة التي وضعتها أحزاب المشترك بشأن أفعال السلطة في الجنوب، والتي تسيء إلى مشاعر الجنوبيين.

إن القوى الحزبية والسياسية في صنعاء لم تر للأسف أية حجة أخرى، لأنها لم تقلق على مطالب الجنوبيين، مثل قلقها على «الوحدة المعمدة بالدم ».

وهكذا نشأت الاحتجاجات الجنوبية المتدفقة بقوة دون أي مشاركة تذكر من قبل القوى السياسية في صنعاء، ولا وجود بعد الآن لنضال مشترك.. بعد أن تركت الجنوب يدافع عن نفسه بنفسه. والسلطة سعيدة جدا ً بهذا الافتراق.. الذي يضمن لها في هذه المرحلة الخطوط الخلفية للقضية الجنوبية.. وكلما ازداد تورط القوى السياسية المعارضة في صنعاء في التحالف غير المباشر مع السلطة لضرب الفعاليات السلمية في الجنوب كانت علاقاتها مع الحراك الجنوبي أبرد وأقرب إلى التصادم السياسي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى