الفكرة .. والواقع ..وعودة الوطن المفقود !!

> د.عبيد البري:

> يقال أنه ليس هناك أقوى من فكرة جاء أوانها .. ولكنني أزعم أنه ليس هناك أسوأ من فكرة جاء أوانها لكن أصحابها لا يعرفون الطريق إلى تحقيقها فتتحول بالتالي من فكرة خلاقة إلى عمل يسيء إلى الفكرة نفسها .

لقد اصطدمت فكرة الوحدة - التي كان يحلم بها الشعب اليمني حتى نوفمبر عام 1989م - بعدم الفهم الكافي بأن عملية التوحد ليست مجرد إزالة الحدود الدولية لخلط البشر بعضهم ببعض، بل هي في الحقيقة وحدة بين كيانين سياسيين وتاريخيين، وبالتالي لن يستطيع أي كيان أن يتخلى عن ثقافته ويلتحق بالثقافة الأخرى لمجرد أن ذلك يبدو له لمصلحة الوحدة! .. وما حدث من صدام دموي في عام 1994م وما خلفه من نتائج مأساوية كانت إساءة فظيعة لفكرة الوحدة ! ودلالة واضحة على عدم وضوح الرؤية والاختلاف العميق في الثقافتين .والحقيقة المرة أن اليمن يقف في حالة بين ماضٍ لا يريد أن يذهب ومستقبل لا يريد أن يأتي وبينهما حاضر حافل بتناقضات ذات الصلة بالموروث القديم، واحتقانات واحتجاجات لرفض الواقع الذي جعل اليمن يتخلف كثيراً عن العصر .. واقع تلعب فيه عوامل إقليمية ووطنية ومذهبية وقبلية تجعله يتناقض مع أي تصورات وأحلام للمستقبل.

فليس غائباً عن أحد ما يجري اليوم في ظل غياب هيبة الدولة التي تحولت إلى ما يشبه قبيلة كبيرة تتوالد منها حروب قبلية وفتن وتارات.. دولة تتحكم باقتصادها عائلات معدودة في حين تتآكل الطبقة الوسطى ويزداد عدد البؤساء وينتشر فيها ثالوث الفقر والأمية والأوبئة وتتزايد مشاعر الغبن فترتفع أصوات الاحتجاجات ثم تلجأ الدولة إلى قمعها .

إن فخامة الرئيس هو الذي يمتلك الحل والقرار في ظل غياب فاعلية الأحزاب وفي ظل الفساد المستشري وهو الذي يمتلك أيضاً الحكمة في تقدير المواقف والشجاعة في التعامل مع الحقائق مهما تداخلت هذه الفكرة مع عناصر الكبرياء والتأثير الداخلي والخارجي وضغط المؤسسات والمصالح المؤثرة في هذا القرار سواء أكانت محلية أو إقليمية لعودة الحق إلى أهله والاعتراف بقضية الجنوب .. إن عبقرية فخامته -التي تميزه عن الزعماء - قد تجلت في خطابه ومؤتمره الصحفي في ألمانيا حين أشار إلى أن حرمان وإقصاء سبعة مليون عراقي كانوا مستفيدين من الحكم البعثي، الذين وجدوا أنفسهم في الشارع، قد أصبحوا في وضع جعلهم في مواجهة مع السلطة العراقية وقوات الاحتلال!.. وقياساً على ذلك فإن الشعب الجنوبي قد وجد نفسه في مواجهة سلطة لا تستطيع أن تنكر ما وضعته عليه من عقوبات ومن انتهاك لحقوقه وممتلكاته!

ولكننا ننتظر أيضاً من إخواننا (الشرفاء في الشمال) أن يقولوا كلمة حق لرفع الظلم الواقع على الجنوب واستنكار فكرة «الفيد» وما مارسته عناصر السلطة على أرض الجنوب من تدمير ونهب وإلغاء لمقومات الحياة الاقتصادية في مؤسسات القطاع العام في الجنوب الذي بناه الشعب بشق الأنفس مما ألحق ضرراً نفسياً ومعنوياً واجتماعياً ومادياً بالغاً بالعمال والموظفين الذين وجدوا أنفسهم في الشارع دون عمل الذي يعتبرونه شرفاً وواجباً وطنياً واجتماعياً بصرف النظر عن أنه مصدر للعيش الكريم .

وكذلك ليس غائباً عن أحد في الشمال قضية تسريح الغالبية من ضباط وأفراد القوات المسلحة والأمن وإلغاء الوحدات العسكرية وكل ما له علاقة بالهوية الجنوبية بعد نشوة الانتصار في حرب 1994م على عدد قليل من قيادات الحزب الاشتراكي وليس على شعب الجنوب الذي لم يشارك فيها !.. تلك الحرب التي كانت نتاج عمل سياسي منهجي وتعبئة مدمرة بهدف القضاء على الهوية والثقافة الجنوبية .وبما أن الفكرة كانت توحيد دولتين فإن الداعم الأساسي لتلك الفكرة كان الشراكة الحقيقية بين الشمال والجنوب من حيث الحقوق السياسية والاقتصادية لشعبين وثقافتين، بصرف النظر عن المساحة والسكان فالشراكة كانت ستمثل أعلى درجات الديمقراطية التي لاشك أنها كانت ستخدم المصالح الوطنية للإقليم اليمني الذي يعيش في تناقضات سياسية ومذهبية وقبلية لعقود من الزمن .

إن القضية العاجلة لعودة المواطنة والوطن المفقود هي العودة (الحقيقية) لكل المسرحين قسرياً من القوات المسلحة والأمن في الجنوب إلى وحداتهم السابقة وكذلك إعادة كل العمال والموظفين المحرومين من عملهم من خلال استعادة رأسمال مؤسساتهم وإعادة بنائها بشكل شركات مساهمة شعبية لهم ، بحيث تقسم عليهم بشكل أسهم مع إشراك صغار المستثمرين من نفس المحافظة في تلك المؤسسات وأيضاً إعادة مساكن وأراضي المواطنين التي تم الاستيلاء عليها بعد الحرب ومحاسبة اللصوص والفاسدين وترك السلطة في كل محافظة من المحافظات الجنوبية لأهلها. وبذلك فإن السلطة تستطيع أن تجتاز أزمتها المتصاعدة التي يدفع ثمنها الشعب المطحون، وأن تتجنب تزايد مشاعر الحقد الذي أوجدته لنفسها باستباحة الجنوب وما عدا ذلك فإنها تكون قد فوتت الفرصة، وأن مرحلة جديدة من الصراع قادمة يمكن أن تعيد البلد إلى الخلف أبعد مما يمكن تصوره !!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى