قادة منفيون ومواطنون غرباء في وطنهم

> محمد علي محسن :

> المانيا الغربية حملت على عاتقها مسألة التأهيل والدعم للشرق الألماني بـ 600 مليار مارك وفي مدة زمنية حددت بـ 30 عاماًً، الاتحاد الأوربي أيضاً قدم المليارات من الدولارات كقروض ومنح ومساعدات للدولة الشرقية ذات النظام الاشتراكي قبل انضمامها ووحدتها مع الدول الغربية المنضوية تحت مظلة الاتحاد، طبيعة المرحلة والمصلحة معاً اقتضت مثل هذا التأهيل والدعم لإحداث التحول المنشود ليس في الأيديولوجيا السياسية الأحادية أو الاقتصاديات الموجهة من جهة الدول، ولكن حتى في الذهنية والفكر والسلوك لمواطن اعتاد نمط حياة مختلف كلياً عما هو في الوقت الراهن وفي كنف الليبرالية الرأسمالية والعولمة.

آثار هذه التحولات لاتزال بالغة الكلفة على المجتمعات في ألمانيا الشرقية وبولندا ورومانيا و المجر و غيرها من الدول الخارجة لتوها من نظام اقتصادي تهيمن عليه الدولة إلى نظام حر متعدد الأوجه والأشكال، لكم أن تتصوروا حجم الكارثة ومأساتها على هذه الشعوب المعتمدة على الدولة في كل جزئيات حياتها لو أنها توحدت واندمجت دونما أية اعتبارات لتلك الفوارق والاختلافات الموجودة والمكتسبة منذ عشرات السنين! فكيف سيكون الحال في واقع كهذا الذي نعاني فيه جميعاً تبعات الوحدة الفورية دون شرطية التدرج المؤهلة لذوبان الفروقات الاقتصادية والثقافية ضف لها حرباً أهلية وما ترتب عليها من مشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسيه ناهيك عن الكلفة الباهظة التي دفعها المجتمع في الجنوب في سبيل الوحدة أكان ذلك بهزيمة مشروعه الوحدوي الحداثي أو تعطيل ثروته ودولته وطاقاته البشرية والمادية التي للأسف أقصيت من القيام بمهمتها الوطنية وتم القضاء على ما بقي من مقومات وحقوق وثقافة بناء الدولة السائدة في محافظات الجنوب وإحلال ثقافة الفوضى والهمجية والنهب والفيد وغياب القانون وغيرها المعروفة في محافظات الشمال.

اللافت للانتباه أنه كلما زادت الاحتقانات والاحتجاجات الشعبية في الجنوب كثرت بالمقابل الندوات والقرارات الجمهورية والصحف والجهات المهتمة الباحثة عن سبل النجاة من الانفصال، في معظم النقاشات الدائرة في فلك الأزمة الراهنة قليل منها قارب من ملامسة أسبابها ومسبباتها فيما الأغلب ذهب بعيداً عن التفسير البحثي العلمي لماهية الحراك في الجنوب، لست هنا بمقام يسمح بتناول كل ما سمعته أو قرأته من تبريرات حول طبيعة المعضلة الوحدوية القائمة، لكني أكتفي بالإشارة إلى أن التاريخ يضعه المنتصر ومن يملك السلطة والمال والسطوة هكذا ديدنه وفعله يمقت الحقيقة ويطوع التاريخ والإنسان والوجود لمصلحته.

لا وجه للمقارنة بين الوحدة الألمانية والوحدة اليمنية كما أن الفارق ما بين رأسمالية الغرب الألماني والشمال اليمني أو اشتراكية الشرق الألماني والجنوب اليمني أشبه بالمسافة الفاصلة بين الثرى والثريا، لذلك أظن أن مماثلة ما يحدث في الجنوب أو ربطه بمشكلات وقعت في دول المنظومة الاشتراكية السابقة فيه كثير من المغالطة والعسف بحق الدولة في الجنوب ومجتمعها اللذين لم يبرحا المرحلة الانتقالية أولى عتبات انتقال الملكية لوسائل وأدوات الإنتاج إلى الدولة كلياً مثلما هو الحال في الدول الاشتراكية، كذلك الأمر عند تصوير الدولة ومجتمعها في الشمال، اللذين لم يتجاوزا مرحلة بسط ونفوذ سلطة الدولة على كافة المناطق والمساحة الجغرافية وكأنهما الحاضنين الوارثين لكل القضايا والمشكلات الناتجة عن انهيار النظام الاشتراكي في أوروبا الشرقية، مع أن الحقيقة تؤكد أن ما يملكه الشمال من مؤهلات الرأسمالية لا يتعدى بعض المظاهر التجارية والصناعية والاستثمارية.

الوحدة الاندماجية الفورية بين الدولتين المختلفتين أيديولوجياً واقتصادياً واجتماعياً قد تكون أحد أهم أسباب الإخفاق التالي لقيام الدولة الواحدة، وربما لأن الشريكين في إنجازها لم يكونا مؤهلين ولا مستعدين لحمل راية مشروع كبير وعظيم كالوحدة ولو لعام واحد، أما أن يصور ويسوق الأمر لما وقع بعدئذ من حرب أهلية قضت على ما تبقى من الشعور بالشراكة إن لم نقل المواطنة على أنه امتداد لسقوط جدار برلين أو ضرورة تاريخية ووطنية وعولمية كان ولابد من القيام بها فلعمري إنها أكبر مغالطة تاريخية ترتكبها مؤسسات وشخصيات تدعي البحثية والمنهجية والشفافية ويكفي الإشارة هنا إلى أن البعض برر ما حدث ويحدث في الجنوب وكأنه أمر مسلم به إذا ما تم النظر لمعاناة المواطن في أوروبا الشرقية! أعجب ما قيل هو أن خزينة الدولة في الجنوب فارغة من النقد قبل عملية التوحد وأن المواطن لم يستفد من ريع الأرض التجارية الممنوحة له بعد الوحدة في الاستثمار ورفع مداخيله كما أن الحياة في الجنوب أشبه بثكنة عسكرية محكومة بنظام صارم يقوم على توزيع عائد الدولة البسيط على هؤلاء الجند (الشعب).

لسنا هنا بصدد الدفاع عن تجربة عاشها أبناء الجنوب بحلوها ومرها، نجاحها وإخفاقها، ولكنني كمواطن عادي ترعرع في ذلكم المعسكر ولايزال حياً يرزق في واحة الدولة الموحدة في العلم والحكومة أصابتني الدهشة والحيرة إزاء محاولات قلب الحقائق ودونما خجل من صناع الوحدة المنفيين في بقاع الأرض ولا من المواطنين في الجنوب الذين هم غرباء ومقصيون من وظائفهم وشراكتهم وأرضهم، وما أحوج هذا البلد لقول كلمة صدق في ظروف عصيبة كهذه، نعم المشكلة أعظم مما سمعناه أو قرأناه، فلم يكن الشمال يوماً بلداً رأسمالياً وغنياً حتى نحمله تبعات اشتراكية وفقر الجنوب وعلى العكس من ذلك أثبتت السنوات التالية لحرب 94م أن اليمن يكاد يكون حالة استثنائية من حيث توافر مؤهلات الانتقالية لحرية السوق والليبرالية في الجنوب الاشتراكي أكثر منه في الشمال الرأسمالي، كما أن الأيام كشفت أن معضلة دولة الوحدة تمثلت بغياب الحامل للمشروع النهضوي الجدير بكل اليمنيين وبالذات في مجتمع الجنوب الثائر والرافض لوحدة فقدت قيمتها ومعناها ومنذ ذلك التاريخ الذي هزمت فيه الدولة المدنية وحلت محلها الدولة العسكرية بأنموذجها المتخلف والجنوب لا يهدأ ولا يستكين وهذا بالضبط ما لم يتحدث به المتحدثون إلا من رحم ربي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى