طوبى للتضامن

> علي صالح محمد:

> لا أخفي على القارئ العزيز أنني في كل مرة أعود بها من الخارج الى الوطن تزورني لا إراديا حالة اكتئاب ومشاعر إحباط كبيرة تتضاعف في كل مرة بسبب المقارنات اللا إرادية بين ما اختزنته الذاكرة من مشاهد وانطباعات جميلة شملت كل الحواس وتكونت عن بلاد الغير، وبين مظاهر البؤس التي تصدم كل الحواس في ما نعتبره الوطن ، وهو الوطن الذي لم يعد للناس فيه سوى معاني الانتماء القوية المرتبطة بمشاعر المرارة وحقوق الوجود التي لا يمكن محوها، وما تختزنه الذاكرة من الأنين والأوجاع بعد أن اغتيلت عرى الارتباط الحقيقية ، و قتلت حقوق و مصالح الانتماء .

قبل أيام التقيت بأحد المناضلين الذي لمع اسمه بقوة في مرحلة النضال ومرحلة بناء الدولة الوطنية في الجنوب ومشروع الوحدة التاريخي الضائع، وحين سألته عن حاله أجاب والخيبة والحزن يزينان محياه: يا أخي الموت أهون من العيش هذه الأيام . سألته ولماذا ؟ أجاب : ما هو شعورك حين تقضي أكثر من خمسة وأربعين عاما من عمرك في العراك والصراع والنضال من أجل تحقيق الأحلام الجميلة لك ولشعبك وبعدها تكتشف أن كل شيء أصبح كالسراب، يضيع كل شيء لتبدأ من جديد ، والعمر لم يعد يحتمل .

قلت له مذكرا بما قاله الحسن بن طلال في واحدة من مقابلاته ردا على أحد الأسئلة في حوار مع قناة الجزيرة (اذا كان أمثالنا في الستين من العمر لا يستطيع أن يتحدث بصراحة فلا خير فينا) وهذا ينطبق عليكم من زاوية أن تتحلوا بالشجاعة في مقاومة البؤس القائم .

أجابني: ألا تلاحظ أن نعمة التقدير والاحترام تطوقهم من كل جانب والبؤس والانتقام يحتضنانا من كل اتجاه وخصوصا في مثل هذا العمر.

فقلت صدقت ياصاحبي فمظاهر البؤس السياسي والمعيشي والاقتصادي والاجتماعي والصحي والتنموي والسلطوي هي ما تزين حياتنا، و يعاني من هذا البؤس المتراكم جميع الناس وبالذات في المناطق الجنوبية حيث تتراكم القسوة وتسود مشاعر الدونية والاحتقار تجاه ناسها وأهلها من قبل بعض المستهترين بأرواح ودماء الناس، الذين يصوبون الرصاص عمدا إلى صدور الرجال في مناطق الجنوب ، كما حصل أخيرا مع شهيدي التصالح والتسامح صالح أبوبكر السيد البكري اليافعي ومحمد أحمد في ساحة الهاشمي ، والجريح أحمد بن أحمد العبادي الذي عذب وسجن لأكثر من 44يوما، وقبلها في ردفان والضالع والمكلا وعدن وهو ما حذرنا من الوصول إليه مرارا في كتاباتنا لعل العقول النيرة تتعظ وتتجنب المأساة التي تكبر مساحتها في النفوس والعقول حد اللاعودة بعد أن سالت الدماء مجددا.

ومع كل هذا الأنين وفي ظل هذه الأجواء وبالرغم من الأوضاع المؤلمة، تبرز بجلاء مشاعر عظيمة أخرى ذات دلالات كبيرة تمنح المقهورين بعضا من الأمل، وبعضا من التباشير هي زادهم و سلاحهم المتين لصد ومقاومة الباطل والظلم والإحباط ، إنها مشاعر التضامن الإنسانية الرفيعة و المذهلة التي يتحلى بها بسطاء الناس والرجال الحقيقيون حين يتعرضون للبلاء ، ويعبرون من خلالها عن قدرتهم المتواضعة على مقاومة جبروت العنف والعدوان الهمجي الأعمى ، وهذا ما لمسناه بجلاء في مظاهر التضامن السلمية مع الشهداء والجرحى وضحايا الحراك السلمي في الجنوب ، كما هو الحال في مخيم الشهيد صالح أبوبكر اليافعي منذ حادث اغتياله في 13 يناير2008 ، وكما جرى مع المنبر الحر صحيفة «الأيام» مؤخرا إزاء ما تعرض له رئيس تحريرها هشام باشراحيل وأسرته في صنعاء ، ولعل مشاعر التضامن هذه خير دليل على المعاني الرفيعة للحراك الجنوبي وعدالة قضيته، وعلى روح التضامن القادمة من أعماق المعاناة، و الوعي المتنامي المستفيد من الدرس الكبير باعتبار أن المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين، فطوبى للحراك وللشهداء الأبرار الذين يعمدون الملحمة بدمائهم الزكية، ونعم للتضامن الإنساني الكبير بين الناس المقهورين أصحاب القضية حين يتعرضون لكل أنواع المأساة ، وتحية لمنبرهم الصامد صحيفة «الأيام».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى