في ذكرى المولد النبوي الشريف

> د. محمد عبده يماني:

> جرت عادة كثير من محبي رسول الله (ص) وآل بيته الطيبين الطاهرين أن يجتمعوا في أوقات مختلفة يتدارسون سيرة النبي الكريم، وإرهاصات نبوته وما حباه الله من فضل وعلم وهدى، وما وصفه به في كتابه العزيز، ويأتي هذا في إطار الاحتفاء بمولد رسول الله (ص) بالصورة التي تليق بهدي النبي (ص)، ولو رأينا نماذج مما يعرض في هذه المجالس لراينا أحاديث مسندة تروى في صفاته وأخلاقه والبشارة به، وإرهاصات نبوته ونسبه الشريف، وقصة ميلاده ورضاعته، وشق صدره، وفضل الصلاة والسلام عليه، ودعوته إلى التوحيد وجهاده، ولاشك أن الاجتماع لسماع السيرة النبوية لسيد الأنبياء والمرسلين أمر محبب، وفيه الكثير من الفضائل مادام يتم في جو إسلامي دون ابتداع أو انحراف، كما أن ذكره (ص) يكون في كل حين، وإن كان في شهر ربيع الأول يكون تعلق الناس بالاستماع للسيرة أشد، نظرا لأنه الشهر الذي ولد فيه عليه الصلاة والسلام، ففي شهر ولادته يكون الداعي أقوى لإقبال الناس واجتماعهم وشعورهم الفياض بارتباط الزمان ببعضه البعض، فيتذكرون بالحاضر الماضي، وينتقلون من الشاهد إلى الغائب.

ومن ينظر بعمق في قضية الاحتفاء بالمولد الشريف، يلاحظ تعلق المسلمين في الدول الإسلامية، بل والأقليات المسلمة في العالم بهذا الاحتفاء بمولده (ص) وخاصة في شهر ربيع الأول، إلا أن بعض أهل العلم لايقولون بسنية الاحتفاء في ليلة مخصوصة، وبعضهم يرى أن الاحتفاء مسموح ومطلوب ولكن ليس حصرا على وقت محدد، وإذا ازددنا تعمقا في هذه المسألة نجد أن قضية الاحتفاء هي من الأمور المحببة إلى النفوس، وذات أثر طيب في ربط الناشئة وتعويدهم على مثل هذه الذكريات العطرة.

ولاشك أن محبة رسول الله (ص) والفرح بسيرته أمر يجلب الخير للمسلم، لأنه حتى الكافر قد انتفع به، فهذا أبو لهب عندما سمع بولادة محمد (ص) فرح وأعتق جاريته ثويبة التي بشرته بمولد الرسول(ص)، وقد جاء في الحديث في صحيح البخاري مرسلا أن العذاب يرفع عنه يوم الإثنين، ويقول في ذلك الحافظ شمس الدين محمد ناصر بن الدين الدمشقي.

وهذه القصة رواها البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، ونقلها الحافظ بن حجر في الفتح، ورواها الإمام عبدالرزاق الصنعاني في المصنف.

إن الفرح به (ص) مطلوب بأمر القرآن من قوله تعالى: «قل بفضل اللهِ وبرحمته، فبذلك فليفرحوا» (يونس58)، فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة، والنبي (ص) أعظم رحمة إلى الناس كافة، بل إلى كل العالمين، قال الله تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين» (الأنبياء 107).

كما أن النبي (ص) كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت، فإذا جاء الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة لتذكرها وتعظيم يومها.

وقد أصل (ص) هذه القاعدة بنفسه، كما صرح في الحديث أنه (ص) لما وصل إلى المدينة ورأى اليهود يصومون يوم عاشورا، سأل عن ذلك، فقيل له: «إنهم يصومونه لأن الله تعالى نجى فيه نبيهم، وأغرق عدوهم، فهم يصومونه شكرا لله على النعمة»، فقال (ص): «نحن أولى بموسى منكم»، فصامه وأمر بصيامه.

والاحتفاء بالمولد الشريف يحث على الصلاة والسلام المطلوبين بقوله تعالى: «إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما» (الأحزاب 56).

وهناك سؤال يردده بعض ناشئتنا عن الاحتفاء الذي نقوم فيه بقراءة سيرة رسول الله (ص)، والسؤال هو: لماذ كان مولده صلى الله عليه يوم الإثنين من ربيع الأول، ولم يكن مثلا في يوم من أيام رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وزين بليلة القدر، أو في أحد الأشهر الحرم التي جعل الله لها الحرمة، يوم خلق السموات والأرض؟ لاشك أن من يتعمق في هذا السؤال يجد أن الله سبحانه وتعالى خلق الشجر يوم الإثنين، وفي ذلك تنبيه عظيم، وهو أن خلق الأقوات والأرزاق والفواكه والخيرات التي يمتد بها بنو آدم ويحيون ويتداوون، وتطيب نفوسهم عند رؤيتها لاطمئنانهم إلى تحصيل ما يبقي حياتهم على ماجرت به حكمة الحكيم سبحانه وتعالى.

فوجوده (ص) في هذا اليوم قرة عين للجميع، ولاجدال في أن يوم الإثنين يوم مبارك، قد تشرف بمولد الرسول الكريم، وقد سئل (ص) عنه فقال: «ذاك يوم ولدت فيه». أو قال: «أنزل علي فيه».

ومن الواضح أن الحكيم سبحانه وتعالى قد شاء أن تتشرف بنبيه الأزمنة والأمكنة، لا أن يتشرف هو بها، فيحصل للزمن أو المكان الذي يباشره الفضيلة العظمى والمزية الكبرى على ماسواه من جنسه، إلا ما استثني من ذلك لأجل زيادة الأعمال فيها..

وخلاصة القول إن الاحتفاء بالمولد هو إحياء لذكرى المصطفى (ص)، وعندما يكون في إطار مجالس العلم والمواعظ وآداب الدين الإسلامي، فهو أمر استحسنه مجموعة من أهل العلم، لما في ذلك من ارتباط بسيرته (ص) وتتبع لمعجزاته وسيرته وشمائله، وقد أمر الله بالاقتداء به والسير على نهجه، وهو قدوتنا عليه الصلاة والسلام.

ومعرفة شمائله وصفاته تستدعي كمال الإيمان به (ص)، وعادة مايتخلل حفل الاحتفاء بالمولد الشريف كلمات يلقيها بعض العلماء، يتحدث بعضها عن أهم أحداث السيرة العطرة، وبعضها عن صفات الرسول العظيم وأخلاقه الكريمة، وبعضها يتحدث عن حياة النبي وتعامله مع أهله ومع أصحابه ومع محدثيه، وسيرته في التعامل مع أفراد المجتمع، في معاهداته وفي كل شأن من شؤون حياته، لتكمل معالم تلك السيرة العظيمة.

وتتبع السيرة يعمق المحبة ويرسخها في النفوس المؤمنة.. والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: «وكلاً نقصُّ عليك من أنباء الرسل مانثبتُ به فؤادك» (هود 120).

فإذا كان في قصص الأنبياء تثبيت لفؤاده الشريف، فإن في قصص حياته المباركة أعظم التثبيت لقلوبنا، ونحن أحوج إلى التثبيت ليكون أسوة لنا ولأبنائنا، عسى أن نكون على دربه من السالكين، وإلى سبيله من الداعين، وعلى حوضه من الواردين، فلابد أن نقف عند هذا اليوم الكريم لمولد رسول الله (ص)، ونحتفي به ونتعمق في القرآن الذي ذكر مولد مريم بنت عمران، وأشار إلى مولد موسى وعيسى ويحيى عليهم السلام، في إطار التنبيه، ثم جاءت الكتب السابقة تبشر بدعوته (ص) قبل نزول القرآن، والسيرة النبوية المطهرة قد تناقلت أخبار مولده (ص) للأمة بفرح وأشجان، وبالغيظ والطغيان، من حديث حسان قال: «والله إني لغلام يفعة، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطم بيثرب، يامعشر يهود، حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له ويلك مالك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به». وهو بهذا يشير إلى مولد الرسول (ص) كما عرفوه عندهم.

ونذكر ولادته هنا مع تذكير بولادة بعض الأنبياء، وبداية الحديث عن ولادته (ص)، هو من اللحظة التي وضعته أمه بالشعب، وقيل الدار التي عند الصفا، في يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل، أرسلت إلى جده عبدالمطلب: «إنه قد ولد لك غلام»، فأتاه فنظر إليه، وحدثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت به أن تسميه، فأخذه عبدالمطلب فدخل به الكعبة، فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه، ثم خرج إلى أمه فدفعه إليها، والتمس لرسول الله (ص) الرضعاء.

أما سيدنا موسى عليه السلام، فقد قال الله سبحانه وتعالى: «وحرّمنا عليهِ المراضع من قبل، فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم، وهم له نَاصحون * فرددناه إلى أمه كي تقرَّ عينها ولاتحزن، ولتعلم أنَّ وعد الله حق، ولكن أكثرهم لايعلمون». وأما سيدنا عيسى عليه السلام، فقال تعالى عنه: «فأتت به قومها تحمِله، قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريَّا * يا أخت هارون ماكان أبوك امرأ سوءٍ، وماكانت أمُّك بغيَّا * فأشارت إليه، قالوا كيفَ نكلم من كان في المهد صبيا * قالَ إني عبدُ الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنتُ، وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلامُ علي يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أبعث حيا». أما سيدنا زكريا عليه السلام، فقد أوحى الله إليه، قال تعالى: «يازكريا إنَّا نبشرك بغلام اسمه يحيى، لم نجعل له من قبل سميا». وأما سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد (ص)، فأرضعته ثويبة قبل حليمة التي خرجت تلتمس الرضعاء في سنة شهباء، على أتان في ليلة قمراء، وما في ثديها قطرة تبض، لتخفف من بكاء الصبيان، وإنها لترجو الغيب والفرج، حتى أدمت الركب، وشق عليهم من تلك الأتان ضعفا وعجفا، وما من امرأة يعرض عليها رسول الله (ص) إلا تأباه إذا قيل إنه يتيم، وما عسى أن تصنع أمه وجده، فما بقيت امرأة قدمت مع حليمة إلا أخذت رضيعا، فلما أجمعن الانطلاق قالت لصاحبها: «والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه»، قال: «لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة»، فذهبت إليه فأخذته، فلما رجعت به إلى رحلها ووضعته في حجرها، أقبل عليه ثدياها بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما وماكان أبواه ينامان معه قبل ذلك. وذكر أن رسول الله (ص) كان لايقبل إلا على ثديها الواحد، وكانت تعرض عليه الثدي الآخر فيأباه، كأنه قد أشعر (ص) أن معه شريكا في لبنها، وكان مفطورا على العدل مجبولا على المشاركة والفضل (ص)، وقام زوجها إلى غنمه وإنها لحافل، فحلب منها، فشرب وشربت معه حتى انتهيا ريا وشبعا، فباتا بخير ليلة. يقول صاحبها حين أصبحا: «تعلمين والله ياحليمة، لقد أخذت نسمة مباركة»، فقالت: «والله إني لأرجو ذلك». قالت: «ثم خرجنا، وركبت أتاني، وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالركب مايقدر عليها شيء من حمرهم، حتى أن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك أربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟، فأقول لهن: بلى والله، إنها لهي، فيقلن: والله إن لها شأنا». قالت: «ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا لبنا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولايجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم! اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ماتبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبنا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه، وفصلته، وكان يشب شبابا لايشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا». قالت: «فقدمنا به على أمه، ونحن أحرص شيء على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها: «لو تركت ابني عندي يغلظ، فإني أخشى عليه، فلم نزل بها حتى ردته معنا». قالت: «فرجعنا به، فوالله إنه بعد مقدمنا بأشهر مع أخيه في موقع لنا خلف بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي، قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه، فشقا بطنه، فهما يسوطانه». قالت: «فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائما ممتقعا وجهه». قالت: «والتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: مالك يابني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني، وشقا بطني، فالتمسا شيئا لا أدري ما هو!». قالت: «فرجعنا إلى خبائنا». قالت: «وقال لي أبوه: ياحليمة، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله، قبل أن يظهر ذلك به». قالت: «فاحتملناه، فقدمنا به على أمه، فقالت: ما أقدمك به ياظئر، وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك، فقلت: قد بلغ الله بابني، وقضيت الذي علي، وتخوفت الأحداث عليه، فأديته إليك كما تحبين، قالت: ماهذا شأنك، فأصدقيني خبرك». قالت: «فلم تدعني حتى أخبرتها، فقالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟، فقلت: نعم، قالت: كلا والله! ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لابني لشأنا، أفلا أخبرك خبره؟، قلت: بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام!».

لقد فرحت وأنا أستمع مع مجموعة من المصلين لجوانب من سيرته (ص)، وكان إمامنا هو الشيخ هشام بنان، وقد قدمها في صورة محببة إلى النفوس، وخرجنا من المسجد ونحن سعداء بتتبع هذه السيرة العطرة.

وهكذا استعرضنا بحمد الله جوانب من هذه السيطرة العطرة التي من واجبنا الاحتفاء بها، والاهتمام بما جاء فيها، وتدريسها لأولادنا بنين وبنات، وتبسيطها لناشئتنا، لأنه رسول الله (ص)، ومن حقه علينا أن نهتم بسيرته العطرة، ونحرص على السير على هداه، واتباع سنته، والله من وراء القصد، وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

* وزير الإعلام السعودي السابق

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى