الحراك السلمي في الجنوب

> علي صالح محمد:

> المؤكد أن الحراك السلمي الجنوبي استطاع أن يحرك المياه الراكدة في الشأن اليمني على غير توقع، ليحدث إرباكا واضحا لدى كل الأطراف، إن في الحكم أو في المعارضة، ويبدو ذلك جليا من ردود الفعل المتباينة، ووجهات النظر المتعددة في قراءة هذا الحراك، والتعامل معه، فمن ناحية السلطة، يبدو عجزها بينا في استيعاب ما يحدث، متخذة من المكابرة وعدم الاعتراف حد القمع الدموي لهذا الحراك ولكل أنواعه وأشكاله أسلوبا وفلسفة حكم مبنية على العقلية والذهنية التسلطية، والمشحونة بالنظره الدونية تجاه المناطق الجنوبية، باعتبارها مناطق استباحة وتوسع جديدة، تضاف إلى مناطق جنوب الشمال وتهامة، وكما يبدو، لم تكن تتوقع هذه العقلية أن يكون الحراك الجماهيري بهذا الاتساع والزخم، وبهذه السرعة، والأمر الأكثر مدعاة لقلق السلطة هو أن هذا الحراك يتصلب عوده بقوة أكبر كلما مارست السلطة مزيدا من التعنت والقمع ، وهي بتصرفها هذا تكون قد كسرت حاجز الخوف لدى الناس، وأكسبت الحراك شرعية استمراره كنتاج طبيعي لممارساتها.

ويتضح ذلك أكثر في تعامل السلطة مع هذا الحراك من خلال عمليات القمع التي نتج عنها سقوط العديد من القتلى والجرحى في كل مدن الجنوب، وهي منذ بداية الأحداث حتى اليوم تبدي هروبا واضحا من محاسبة المعنيين والمسئولين عن ارتكاب مثل هذه الجرائم، حد تكييفها قانونيا كجنايات مقيدة ضد مجهول، وهذا ما نراه في قضية شهداء وجرحى مسيرة التسامح والتصالح في محطة الهاشمي بمدينة عدن في 13يناير 2008، حيث يتركز النقاش والتحقيق حول معالجة النتائج من الناحية الجنائية، وكأن الشهداء والجرحى سقطوا بفعل مجهول، مع أن الوصول إلى نتائج التحقيق المجردة والمحايدة هي من ضمن مهمات جهات الاختصاص الأمنية، وضمن مسئوليتها في توفير الأمن للجميع بلا استثناء، لهذا فإن المعالجة يجب أن تأخذ البعد السياسي لمجمل الأسباب التي أدت إلى ذلك، وليس البعد الجنائي، لأن الرصاصات لم تكن تستهدف شخصا بعينه بل استهدفت كل المشاركين في هذا الحراك، وبناء على ذلك تصبح السلطة مسئولة بالكامل عن أفعال أجهزتها، ومتهمة حتى تثبت براءتها باعتبارها مسئولة عن القمع وعن التصعيد والتأجيج والنتائج المترتبة عن هذا الحراك.

وكنت استمعت مباشرة لعدد من المسئولين في محافظة عدن ولحج ومنهم الإخوة أحمد الكحلاني محافظ عدن وعبدالوهاب الدرة محافظ لحج وعبدالكريم شائف أمين المجلس المحلي في عدن وعبدالله قيران مدير الأمن في منزل أخي سالم صالح محمد، وهم يعبرون عن مشاعر الأسف تجاه الأرواح التي أزهقت، مؤكدين على انتهاج أسلوب أكثر رقيا في التعامل مع كل أشكال الحراك بعيدا عن العنف، مبدين الاستعداد لتفهم ومناقشة أطروحات قيادة الحراك، وهذا في تصوري أمر يستحق الاهتمام والمتابعة، ويجب أن يكون ضمن أولويات قيادة السلطة لأن أي تشدد أو تعنت لن يؤدي إلا إلى المزيد من تعميق الأسباب الكامنة وراء هذا الحراك الذي لن يهدأ كما يبدو إلا بزوال أسبابه، وهي كثيرة، وفي مقدمتها الاعتراف بالقضية الجنوبية، ورد الاعتبار للجنوب كثنائي مكون للوحدة الشرعية التي تمت بين الجنوب والشمال في عام 1990 طوعيا وسلميا، وإلغاء كل ما نتج عن التوحيد القسري واللاشرعي بنتيجة حرب 1994، وما نتج عن هذه الحرب من ضم وإلحاق ومصادرة حقوق وإقصاء للكادر، ونهب للثروات واستيلاء على الأرض، ومن تمييز في التعامل وتهميش وتعسف وطمس للهوية الثقافية الجنوبية كتأريخ وككيان وتراث وتقاليد وعادات ودولة نظام وقانون، لأن عدم الاعتراف بهذه القضية يعني فيما يعنيه عدم الاعتراف بشرعية الوحدة كمشروع تم بين النظامين في الجنوب وفي الشمال، و دمر عسكريا في حرب 1994، إضافة إلى غيرها من الممارسات والأفعال التي أدت إلى قتل الوحدة الحقيقية، وعمقت الانفصال بل والتشرذم الحقيقي في النفوس، وكل ذلك تحت مسمى الوحدة، مع أن الوحدة الحقيقية هي في الواقع من صنع من جعلوها هدفا لنضالهم اليومي، واعتبروها في يوم من الأيام قدرا ومصيرا للشعب اليمني، ليصبحوا في عداد ضحاياها ويصبح شعار (الوحدة أو الموت) مصدرا لعذاباتهم، ونعيما لمن هم في السلطة، لهذا على الذين يسألون عن أهداف هذا الحراك أن يبحثوا ويمعنوا النظر في أسبابه الكثيرة، وباعتباره ردة فعل طبيعية لكل ما جرى ويجري ضد الجنوب وناسه، ومن هنا تأتي مسئولية الآخرين الوطنية والسياسية والأخلاقية والأدبية في استيعاب ما يجري، وفي المشاركة في تحقيق أهداف الحراك، بدلا من الارتياب والتشكيك والتخويف وممارسة القمع والتخوين والتشويه لأهدافه، ومهم أن ينظر إلى الهتاف الذي يتردد باسم وحدة الجنوب بكونه لايتعارض أبدا مع الوحدة الحقيقية التي أسهموا في صنعها في عام 1990، وإنما يتعارض كليا مع كل ما نتج عن حرب 1994، ولعل في وحدة الجنوب والجنوبيين المدخل الطبيعي لإعادة إصلاح مسار مشروع الوحدة برؤى جديدة، وتعميق أسس الديمقراطية، وتحقيق التنمية، واحترام التنوع والخصوصية، بعيدا عن السياسات التي أدت إلى تمزيق وتدمير الجنوب ككيان وتاريخ ودولة وهوية، وقادت البلاد إلى التشرذم ، وتقود الجميع إلى المجهول والفوضى في ظل التدهور الاقتصادي المؤدي إلى تنامي معدلات الفقر والجوع وانتشار الفساد.

كما تقتضي المسئولية الوطنية النظر إلى هذا الحراك والتعامل معه بحكمة وبعقلية غير عدائية، تحترم الآخر وتنبذ العنف، وتنتهج الحوار بدلا من الاحتراب، كما يردد فخامة الرئيس في أكثر من مناسبة- مع أن ذلك تم مع الخارج، ولم يتحقق بعد مع الداخل- ومهم أن ندعوا ونتجه إلى الخيارات الأفضل وإلى التجارب الإيجابية، كما هو الحال في الإمارات العربية المتحدة وماليزيا على سبيل المثال، وليس الدعوة إلى الخيارات السلبية كما هو الحال في الصومال والعراق وأفغانستان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى