على أعتاب ندوة الأمن الغذائي بكلية الزراعة المنعقدة بتاريخ 30-29مارس2008.. مأزق الحكومة اليمنية في تحقيق الأمن الغذائي

> د. يحيى عبدالله الدويلة :

> بالرغم من الاختلافات الواسعة في تحديد مفهوم أو تعريف واضح للأمن الغذائي إلا أن دول العالم اتفقت في مؤتمر القمة العالمي للأغذية، 1996م في روما على أن «الأمن الغذائي يتحقق عندما يتمتع البشر كافة، في جميع الأوقات بفرص الحصول، من الناحية المادية والاقتصادية، على أغذية كافية وسليمة ومغذية تلبي حاجاتهم وأذواقهم الغذائية كي يعيشوا حياة موفورة النشاط والصحة«، وهذا المفهوم الواسع يضع أمام رؤساء الدول والحكومات، أو من يمثلونهم مسئولية توفير الغذاء بالكميات الكافية والنوعية الملائمة بما في ذلك استخدام الغذاء من خلال حمية كافية، ماء نظيف وتصريف مجاري ورعاية صحية وصولا إلى الحالة المغذية، التي تلبي كل الحاجات الفسيولوجية والأهم من ذلك هو ضمان استقرار وثبات توفير الغذاء وتأمينه بحيث يحصل السكان، الأسر أو الأفراد على الغذاء الكافي في جميع الأوقات وعدم المخاطرة بفقد الحصول على الغذاء كنتيجة للصدمات المفاجئة مثل الأزمات الاقتصادية أو المناخية أو الأحداث الدورية مثل عدم أمان الغذاء الموسمي.

وقد أكد زعماء العالم في هذا المؤتمر أن من حق كل إنسان الحصول على أغذية سليمة ومغذية، بما يتفق مع الحق في الغذاء الكافي والحق الأساسي لكل إنسان في التحرر من الجوع.. وقد عبر هؤلاء الزعماء عن اقتناعهم بأن الطابع متعدد الجوانب للأمن الغذائي يقتضي اتخاذ تدابير قطرية منسقة وبذل جهود دولية فعالة تستكمل تلك التدابير وتعززها، والتزموا بتوفير بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية مواتية تستهدف إيجاد أفضل الظروف لاستئصال الفقر باعتبار أن ذلك أقوم سبيل يقود إلى تحقيق الأمن الغذائي المستدام للجميع، وتنفيذ سياسات تهدف إلى استئصال الفقر والقضاء على انعدام المساواة، وإلى تحسين الفرص المادية والاقتصادية للناس كافة في الحصول، في جميع الأوقات، على أغذية كافية.

وتعهدت بوضع سياسات وممارسات مستدامة وقائمة على المشاركة لتوفير الإمدادات الغذائية الكافية والموثوق بها على المستويات الأسرية والقطرية والإقليمية والعالمية، وبمكافحة الآفات والجفاف والتصحر، وذلك بالنظر إلى ما للزراعة من طابع متعدد الوظائف، وستعمل على أن تؤدي السياسات المتعلقة بالتجارة في السلع الغذائية والزراعية وبالمبادلات التجارية عامة إلى تعزيز الأمن الغذائي للجميع من خلال نظام تجاري عالمي عادل ومستند إلى قوى السوق، وأهمية السعي إلى تلافي الكوارث الطبيعية وحالات الطورائ التي يتسبب فيها الإنسان، وإلى التأهب لمواجهتها، وإلى سد الاحتياجات الغذائية العابرة والطارئة بطرق تشجع عمليات الانتعاش والإحياء والتنمية وبناء القدرات على تلبية الاحتياجات في المستقبل، وأيضاً تشجيع تخصيص واستخدام استثمارات القطاعين العام والخاص على النحو الأمثل من أجل تعزيز الموارد البشرية، والنظم الغذائية والزراعية والسمكية والحرجية المستدامة، والتنمية الريفية، في كل من المناطق ذات الإمكانيات المرتفعة والمناطق ذات الإمكانيات المنخفضة، وبالتالي تنفيذ خطة العمل هذه ورصدها ومتابعتها على جميع المستويات بالتعاون مع المجتمع الدولي.

بتعاقب حكوماتنا الموقرة ومنذ ذلك التاريخ لم يتحقق أي شيء من كل هذه المقترحات والاتفاقات المشار إليها في إعلان روما، ياترى ماهي الأسباب؟ أهو عدم استيعاب أم إهمال أو عدم اقتناع أم أنها حاولت ولكنها فشلت لأسباب موضوعية؟..الحقيقة لا يعود السبب إلى أي واحد من هذه الأسباب، بل أن الحقيقة المرة هي أنها لم تلتفت ولم تضع في ممارستها تحقيق أي من هذه الأهداف، بل على العكس من ذلك سارت الأمور في اتجاه آخر ظهرت نتائجه في الوقت الحاضر بشكل أزمة خطيرة تمس كيان المواطن العادي، وتهدد استقراره حيث إنها وقعت أسيرة تصورات وفلسفة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والقروض المشروطة بمشاريع خدمية غير تنموية لم يؤد إلى تحقيق أي أهداف تنموية وتحسين مستوى تأمين الغذاء لمواطنيها، وقد أظهرت آخر إحصائيات المنظمة العربية أن اليمن أنتجت 218 ألف طن من القمح واستوردت 3 مليون طن في عام 2007م أي وصل معدل الاكتفاء الذاتي من القمح نسبة %15 وحسب وهو معدل منخفض جداً، وبذلك فشلت ذريعاً وأهم أسباب الفشل هو غياب الاستراتيجية الوطنية المستقلة وأسباب أخرى نستعرضها في هذه المقالة.

الواقع ومنذ وقت سابق وضع مجلس الوحدة العربية برامج متكاملة للأمن الغذائي العربي، وأقر عدداً من المشاريع المهمة لم ير أي شيء منها النور، وهذا ليس له أي تفسير سوى الافتقار إلى الإرادة السياسية والقرار المستقل وغياب مفهوم مصلحة الجماهير في الفكر السياسي وتصورهم أن الدولة تعني تحقيق مصالحهم الذاتية والضيقة. إن لدينا أمثلة عديدة لدول تعي مصلحة شعوبها وحينما توفرت لدى حكامهم الإرادة السياسة تمكنوا من التغلب على صعوبة اقتصادية كبيرة فكلنا يتذكر رئيس مالاوي حينما صعد إلى الحكم قال «أنا لا أريد أن أكون رئيساً لدولة تتوسل الآخرين لتغذية شعبها»، فوضع خطة تنموية زود فيها المزارعين بالمدخلات والتقاوي ولم تمر ثلاث سنوات إلا وأصبحت مالاوي دولة مكتفية ذاتياً من الحبوب، والمثل الآخر الهند وهي دولة فقيرة مرت بثلاث ثورات وهي الثورة الخضراء (توفير الحبوب والمحاصيل) الثورة الصفراء (توفير الزيوت) والثورة البيضاء (أي توفير الألبان) وحققت اكتفاء ذاتياً من هذه المنتجات، بل تجاوزت ذلك إلى التصدير في وقت قصير. إنها الإرادة السياسية ووضوح الأهداف.

إن أهم عنصر لتحقيق الأمن الغذائي هو إتاحة الفرصة للحصول على الإنتاج مثل الأراضي والمياه، وعلى مستلزمات الإنتاج، والبذور والنباتات المحسنة والتكنولوجيات المناسبة والقروض الزراعية ووضع سياسة سعرية مشجعة.

غير أن الدولة لم تسع إلى توفير أي من هذه الإمكانيات للمزارعين بحجة التحول لنهج اقتصاديات السوق، وهو أمر غريب يدل على أن اقتصاد السوق يعني تخلي الدولة عن مهامها الأساسية في تهيئة ظروف مثلى لتحقيق معدلات إنتاج ونمو قصوى من خلال وضع سياسات داعمة لعناصر الإنتاج المتوفرة محلياً، فالدول الأوروبية وأمريكا وهي أكبر اقتصاديات السوق تدعم مزارعيها لتمنحهم تفوقاً وسيطرة عالمية، فالولايات المتحدة الأمريكية تدعم الزراعة بمبالغ هائلة تصل إلى مليار دولار يوميا، لذلك فإن هذه الحجة واهية وماهي إلا هروب من المسئولية تجاه شعبها.

يضع إعلان روما الحكومات أمام مسئولية تهيئة بيئة تتيح للمبادرات الخاصة والجماعية أن تكرس مهاراتها وجهودها ومواردها، ومن بينها الاستثمارات على وجه الخصوص، في سبيل بلوغ الهدف المشترك المتمثل في توفير الغذاء للجميع. وينبغي تحقيق ذلك بتعاون ومشاركة جميع أفراد المجتمع. وإن المزارعين والصيادين والحرجيين وغيرهم من المعنيين بإنتاج الأغذية وتوفيرها، يضطلعون بدور حاسم في تحقيق الأمن الغذائي، ومن ثم فإن إشراكهم وتأهيلهم بصورة كاملة عاملان حاسمان لإحراز النجاح لكن طبعاً أي من هذه الاتجاهات لم تحصل وكلنا يمكن أن يلاحظ غياب تشجيع الاستثمارات، بل نجد خوف المستثمر المحلي من الاستثمار في مشاريع تنموية بسبب السياسات المنفرة للمستثمرين.

من جهة أخرى شهدت الفترة الماضية تزايداً ملحوظاً في سكان المدن مما يعني أن هناك تسارعاً في الهجرة من المناطق الريفية إلى المدن الرئيسة وهذا مؤشر واضح إلى إهمال الريف والتقصير في المشاريع التنموية والخدمية والافتقار إلى أبسط مقومات الحياة مثل توفير الكهرباء التي معظمها شيدت بأموال أهلية. إن هذا الوضع ألقى بظلالة في زيادة حدة الفقر والجوع وسوء التغذية، صحيح أن في الآونة الأخيرة ظهرت مشاريع مثل مكافحة الفقر أو تحسين الزراعة المطرية في الريف وتنمية المرأة الريفية، إلا أن هذه المشاريع لم تساعد في إحداث نهضة ملحوظة أو تعطي ثمارها على أرض الواقع.

إن الأمن الغذائي لن يتحقق إلا من خلال توظيف استثمارات طويلة الأجل في إجراء بحوث عن الموارد الوراثية وتحسين الأصول المحلية وإدخال التقنيات الحديثة في الزراعة لرفع انتاجية الهكتار، وهي الوسيلة الوحيدة المتوفرة لتحقيق الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي، وتعد مشكلة المياه هي العائق الأساس في التوسع الأفقي غير أن هناك عدداً من السياسيات الخاطئة وغياب التشريعات الحكومية وسيادة القانون تحول دون الاستغلال الأمثل للمياه، حيث يلاحظ أن التركيز على بعض الخضار والفواكه بهدف تصديرها يعد في الأساس تصديراً للمياه، فالمحاصيل الاستراتيجية المهمة مثل القمح والحبوب هي في الأساس احتياجاتها المائية قليلة مما يتطلب إعادة النظر في السياسات الزراعية.

إن الأبحاث الزراعية معنية هي الأخرى في أن تعيد النظر في خططها واستراتيجياتها، بحيث تغير نظرتها وسياستها الزراعية على أساس التعامل مع تقييم إنتاجية الهتكار للمتر المكعب من الماء، وهذا سيتيح معرفة دقيقة للقيمة الفعلية للمياه وتوجيهها الوجهة الصحيحة. كما أن العمل على تحسين إنتاجية ونوعية الحبوب والبقوليات وهي محاصيل تتوفر فيها إمكانيات أكبر في زيادة إنتاجيتها وإدخالها في خلائط مع القمح بنسبة تصل إلى %30-20 من شأنه أن يقلل استيراد القمح.

على أن الحكومة اليمنية لم تضع أي خطط لمنع التقلب الضار في الإمدادات الغذائية بين موسم وآخر وبين سنة وأخرى، حيث إنها لم تقترب أكثر من الهيئات البحثية والجامعات، وهي الوحيدة المخولة في إحداث التقدم المرجو في تقليل تأثير التقلبات الجوية والآفات والأمراض، والتخفيف من وقعها، وصيانة التنوع البيولوجي واستخدامه بطريقة مستدامة، والاستخدام الكفء بين نظم الإنذار المبكر المناخية، ونقل واستخدام التكنولوجيات الزراعية والسمكية والحرجية المناسبة، والإنتاج، والآليات التجارية والتخزينية والمالية التي يمكن التعويل عليها. ومن الممكن في أحيان كثيرة استباق الكوارث ذات الأسباب الطبيعية أو البشرية، بل وتلافيها ولابد أن تكون الاستجابة لها سريعة وفعالة وتساعد على عودة الأوضاع إلى حالتها الطبيعية.

إن أبلغ مثال على تلافي التقلبات الضارة في الإمدادات الغذائية بين موسم وآخر وبين سنة وأخرى هو ما نتعلمه من النبي يوسف عليه السلام الذي خطط لزيادة نتاج الحبوب خلال السبع سنوات السمان لتعينه على مواجهة وطأة السبع سنوات العجاف، وهنا يأتي دور الدولة في التخطيط لعدم تعريض شعبها للمجاعة أو سوء التغذية في الفترات العصيبة من خلال رفع الاحتياط أو المخزون من الحبوب.

إن التوسع العمراني في الأراضي الزراعية بأت هو الآخر عائقاً مهماً في السنوات الأخيرة وخصوصاً في مناطق المرتفعات الجنوبية والشمالية التي تعتمد على الزراعة المطرية ليس هذا فحسب، بل أننا رأينا في السنة الماضية كيف أن إدخال الإنارة بجانب الأراضي الزراعية كان له أثره السلبي على إنتاجية الذرة الرفيعة في تلك المناطق، حيث إنها أظهرت سلوكاً غير محايد في فترة الإضاءة مما يتطلب إعادة النظر في تلك الأصناف القصيرة الاحتياج للفترة الضوئية واستبدالها بأصناف أخرى محايدة وهذا سيسحب ظلاله على مستقبل إنتاج الغذاء، حيث إن ذلك يعني أنه بدلاً من التوسع بزراعة مساحة زراعية جديدة فإن ما يحدث هو العكس.

بالرغم من أن إعلان روما يدعو الدول الغنية إلى مساعدة البلدان النامية والبلدان التي تمر اقتصادياتها بمرحلة تحول، على تعزيز الأمن الغذائي من خلال الموارد اللازمة للاستثمار إلا أنني أرى أن هذا الاتجاه غير فعال وعادة ما يحمل في طياته نوايا ومخططات هذه الدول، فمعظم المساعدات التي وصلت إلى بلادنا لم توظف في مشاريع تنموية جادة بالرغم من وجود استثناء وحيد، وهو إعادة بناء سد مأرب بمساعدة إمارتية، وهي مساعدة حقاً تمثل الاتجاه الصحيح فمثلها لا نجد في قبولها حرجاً فياليت كل المساعدات بهذا الشكل.

دائماً ما يطرح بعض المعارضين لمفهوم الأمن الغذائي هذا بأن الأساس في تحديد استراتيجيات الأمن الغذائي من خلال تحديد القدرة على امتلاك المال، فالدول التي تمتلك المال مثل الدول النفطية تستطيع أن تضمن توفير الغداء في الوقت الحالي من الخارج غير أن التوجه العالمي للأسف يخذل هذه الدول، حيث إن الدول المنتجة للحبوب والمصدرة له مثل الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لاستخدامها في الوقود الحيوي، وهذا ما دعا جاك ضيوف إلى تحذير دول الخليج من أنها ستواجه مشكلات حادة إذا لم تستثمر في الزراعة في السودان وشمال أفريقيا، فما بالك والحالة في اليمن التي حتى إذا امتلكت الثروة فلن تستطيع أن تؤمن الغذاء لمواطنيها، وكما أذكر في السابق منحت أثيوبيا أراضي لليمن بهدف زراعتها، إلا أنها توقفت ولا أدري لمَ لا يتم الاستثمار في السودان، ودائماً ما يتحجج المستثمرون بأن النظام في السودان غير مستقر، وهي حجة واهية حيث إن المشاريع الزراعية لا تتطلب إقامتها منشآت وبنية تحتية ضخمة، وبالتالي يمكنها الانسحاب متى تريد مع أن العكس هو الصحيح، حيث إن السماح للاستثمار سيزيد من نفوذ المستثمرين في هذه الدول.

لقد أظهرت سوريا بأنها الدولة الوحيدة التي حققت اكتفاء ذاتياً خلال العام المنصرم، فلماذا لا يتم الاستفادة من خبراتها؟ للأسف الزيارات المتكررة السنوية للوفد السوري الزراعي لا يواجه بالترحيب الكافي ولا أعلم لمصلحة من هذا التباعد بين الأقطار العربية، ليس هناك من حل سوى تكامل عربي لمواجهة التحديات في تأمين الغذاء للمواطنين العرب فالسياسات العربية الحالية لا تخدم مسألة الأمن الغذائي، وعليه لابد أن تتحرك الشعوب العربية في الضغط على حكوماتها لإيجاد تقارب وتنفيذ مشاريعها الاستثمارية الحبيسة الأدراج في مجال الزراعة لأن القادم سيكون أصعب.

لقد حذر مدير عام الفاو الدول التي تواجه نقصاً حاداً من الحبوب من أن عليها اتخاد القرار السياسي بزيادة مساحتها الزراعية، وتكتفي من الحبوب من أنها ستواجه تظاهرات واضطرابات وقلاقل سياسية،

كما يرى المحللون الاقتصاديون أن الأزمة ستبلغ ذروتها في رمضان القادم إذا لم تحل حلاً جذرياً وإذا لم يحدث تغيير في فكر القيادة السياسية النمطي القائم على التوسل والاستسلام العاجز في مواجهة التحديات الاقتصادية القادمة.

إن من لا ينتج غذاءه لا يملك حريته ولا يملك قراره.. فهل تعي حكومتنا ما نقول!؟

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى