في وفاة الشيخ محمد سالم بن محفوظ ..رجل الحكمة والوسطية والوفاء

> د.محمد علي السقاف:

> فُجعت حقاً بقراءة نبأ وفاة المغفور له الشيخ محمد سالم بن محفوظ في صحيفة «الثورة» اليمنية عدد يوم الخميس 27 مارس 2008م من خلال برقية العزاء والمواساة التي أرسلها الأخ عبدربه منصور هادي نائب رئيس الجمهورية إلى الشيخ خالد بن سالم محفوظ وإخوانه وأفراد أسرته، وقد أحسن نائب الرئيس بعمل ذلك مقارنة بمسئولين آخرين في الدولة اليمنية، الذين ربما تناسوا أن خالد بن محفوظ وأسرته زودوا الخزانة الفاضية للدولة في بداية الوحدة بمبلغ لايقل عن 350 مليون دولار دفعة واحدة مقابل قبول صفقة خاسرة بشراء (شركة تكنوا أكبور) الروسية، التي كانت تنقب عن النفط في الجنوب قبل الوحدة، وكعادة بعض المسئولين هنا في الدولة نسوا مثل هذه المبادرة المنقذة لأوضاعهم السيئة، وتخلوا سريعاً عن دعم شركة (النمر) حين واجهت بعض المتاعب في نشاطاتها مثلما كرروا تخليهم عن شركة( يمن أوفست) لإدارة منطقة الحاويات في المنطقة الحرة.

فقد تعرفت شخصياًً على الشيخ محمد سالم بن محفوظ عن قرب حين انتقلت بطلب من قيادة البنك من المنطقة الشرقية للعمل في الإدارة العامة للبنك، بعد أن أعجبوا ووافقوا على الاقتراح الذي طرحته على الإدارة العليا للبنك وتحديداً على الشيخ خالد سالم بن محفوظ حول أهمية وجود إدارة تهتم بوضع إستراتيجية عامة للبنك، وأنشئت فعلاً هذه الإدارة بعد أشهر قليلة، وأوكلت مهامها لنائب المدير العام الرجل المصرفي العالمي العصامي الذي بنى نفسه بنفسه وهو السيد عمر عبدالقادر باجمال رفيق درب الشيخ سالم بن محفوظ، وسميت بإدارة التخطيط والتنمية، تتضمن إدارة البحوث والنشر، وهو اسم على غير مسمى فهي أقرب إلى إدارة الأبحاث والدراسات الاقتصادية تهتم بدراسة مكونات الاقتصاد السعودي وعلاقته بتطورات أسعار وإنتاج النفط الذي يشكل المورد الرئيس والأساس للموارد المالية لميزانية الدولة وللصناعات البتروكيماوية. وبحكم تولي مسئولية هذه الإدارة تطلب عملي متابعة تطورات الأسواق الدولية للنفط ومستوى النمو الاقتصادي للدول الصناعية الكبرى، لما لذلك من أثر كبير في حجم وارادتها النفطية من المملكة على وجه الخصوص. وانطلاقا من ملاحظتي أن المملكة العربية السعودية أكبر دولة منتجة ومصدرة، وتمتلك أكبر احتياطي نفطي، فإن ذلك يترتب عليه أن يكون البنك الأهلي التجاري كأكبر وأقدم بنك سعودي وطني، وواحد من أكبر البنوك الخاصة من بين بنوك الدول النامية مواكبا مكانة المملكة، وأن لايجعل ذلك يحتكر من قبل بنوك الدول المستهلكة للنفط، وبحكم هذه المهام التي كلفت بها أعد التقارير الاقتصادية والنفطية ذات العلاقة بانشطة البنك لإرسالها لعدد محدود من القيادات العليا الإدارية للبنك، ومن هذا المنطلق كان الشيخ محمد بن سالم يطلب منى بعض الاستيضاحات حول تلك التقارير النفطية أو حول توجهات اقتصاد المملكة، وكان يسعدني التحدث معه حول المواضيع التي تناولتها تلك التقارير والدراسات، وكنت أشعر دائما عند الجلوس أمامه في مكتبه في الدور الأخير في المبنى الذي ترمز هندسته إلى الرقم واحد (على أساس أنه البنك الأول والأكبر) أن هذا الرجل العظيم المتواضع تبوأ مركز رئيس الهيئة الإدارية للبنك بحكم أن والده الشيخ سالم بن محفوظ لكبر سنه احتفظ بموقعه كمدير عام للبنك دون أن يمارس مهامه، وترك ذلك لإبنائه وعلى رأسهم ابنه الأكبر الشيخ محمد الذي كان يعطيني الانطباع أنه تبوأ موقع المسئولية دون إرادته ودون حماس كبير للمنصب، فقط لإرضاء والده- رحمه الله- وبرغبة جماعية من إخوته، لما يتميز به من التواضع والحكمة والوسطية في طرح آرائه وملاحظاته، وبهدوء الإعصاب الذي يمتلكه، والبحث الدائم في الحلول التوفيقية بين المواقف والآراء المتعارضة في الهيئة الإدارية العليا للبنك.

إن على أبناء حضرموت والجنوب عامة أن يشعروا بالفخر والاعتزاز الكبيرين برجالهم الذين هاجروا إلى أنحاء العالم، ونشروا الإسلام فيها، وسماحة تعاليمه دون عنف ولا إراقة دماء، وهو ما سهل لهم الاندماج في مجتمعات دول المهجر خاصة في جنوب شرقي آسيا كإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، وتقلد من بين موجات المهاجرين الحضارية من الجيل الثاني والثالث قادة بارزون حكموا تلك الأقطار، لعل أشهرهم دوليا مهاتير رئيس وزراء ماليزيا الأسبق الذي استطاع إدخال بلاده ضمن ما تسمى الدول حديثة التصنيع (النمور الآسيوية)، مع الفارق أن النمور الآسيوية مثل (كوريا الجنوبية وهونج كونج وتايوان.. إلخ) ازدهرت في فترة الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين، الذي أدى إلى ضخ الولايات المتحدة استثمارات مكثفة نحو تلك الأقطار لإثبات نجاح دول اقتصاد السوق مقابل دول الاقتصاد الموجه، فبلوغ ماليزيا ازدهارها جاء خارج إطار الحرب الباردة، وبفضل عبقرية قياداتها وعلى رأسهم رئيس وزرائها السابق مهاتير.

كما أن من دواعي الفخر لأبناء حضرموت عباقرة الرواد الأوائل الذين ساهموا كثيرا في بناء ونهضة المملكة وازدهارها أمثال الشيخ سالم بن محفوظ وبن لادن الأب وآل بقشان وآخرين، الذين يجب تخليد أعمالهم وعبقريتهم في البناء والتجارة في مدنهم التي انطلقوا منها، بإطلاق أسمائهم على بعض أحياء وشوارع مديرية دوعن.

كنت أتمنى أثناء فترة عملي في البنك الأهلي التجاري أن أقوم بكتابة كتاب عن حياة الشيخ سالم بن محفوظ، وأبلغت أبناءه برغبتي تلك، حيث كنت حينها فرغت من قراءة كتاب باللغة الفرنسية لأحد كبار الاقتصاديين والإستراتيجيين الفرنسيين اسمه (جاك أتالي) عمل كمستشار للرئيس فرنسوا ميتران حين كان في الرئاسة الفرنسية، عن شخصية مصرفية يهودية كشخصية مصرفية عبقرية، والسيد جاك أتالي هو نفسه أيضا من اليهود الفرنسيين، فقلت لماذا لا أكتب أنا بدوري عن هذه الشخصية الحضرمية الفذة، الذي اقترض ملبغا من المال للسفر إلى جدة، وعمل كصبي ثم صراف في مكتب صرافة آل الكعكي في مكة، وتزوج من أسرتهم ليصبح شريكا لهم، ويطرح بعد ذلك فكرة إنشاء أول بنك سعودي في المملكة في الخمسينات من القرن الماضي حين اقتنع مؤسس المملكة المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود بإنشاء البنك الأهلي التجاري، الذي بجانب نشاطه كأول بنك تجاري وطني أوكل إليه مهام وظيفة البنك المركزي بنك البنوك حتى إنشاء مؤسسة النقد العربي السعودي كبنك مركزي، في هذه الأثناء نجح الشيخ سالم بن محفوظ في بناء أمبراطوية مالية كسبت ثقة البنوك العالمية، ليتصدر بنوك المملكة وبنوك كثيرة في دول العالم الثالث.

فإذا كان البنك الأهلي التجاري الذي تغيرت ملكيته منذ سنوات قليلة لم يتبقَ لآل بن محفوظ إلا نسبة رمزية في ملكيته لأسباب ليس هذا المجال للحديث عنها، فإن عزاءنا مع ذلك أن الشيخ سالم بن محفوظ الرجل البسيط المتواضع لم يبنِ أمبراطورية مالية فحسب تقلصت بفقدهم جوهرة هذه الإمبراطورية ممثلة بالبنك الأهلي التجاري، وإنما استطاع أيضا أن يورث أبناءه بعضا من خبراته وعبقريته ممثلة بالشيخ خالد بن سالم بن محفوظ الذي صنع لنفسه ولاسم عائلته ثروة طائلة تفوق ملياري دولار في الاستثمارات الخارجية.

رحم الله الفقيد (أبو الوليد) الشيخ محمد الذي ضحك حين أشرت له بالاسم الأول المشترك لي وله وباسم ابنه الأكبر واسم ابني الأكبر، وميلادنا في سنة واحدة مع الفارق أنه أحد أبناء مالك البنك الأهلي، بينما لا أملك أنا غير حصيلة شهاداتي الجامعية، وكان رده المتواضع إن هذا لايقل أهمية عن امتلاك المال، رحم الله أبا الوليد وأسكنه فسيح جناته، وأحر تعازينا لإخوانه الأعزاء خالد وعبدالإله وابنه الوليد وجميع أفراد أسرتهم الكريمة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى