فجر النبوة (2)

> «الأيام» عبده يحيى الدباني:

> ثم يواصل الشاعر البردوني في هذه القصيدة وصفه الشعري لما تلا النبوة من أحداث وردود أفعال تاريخية مختلفة قائلا:

وتهلل الكون البهيج كأنه/ حفل من الأعراس والأعياد/ وأفاقت الوثنية الحيرى على/ فجر الهدى وعلى الرسول الهادي/ مواكب البشرى هناك وها هنا/ تنبي الوجود بأكرم الأولاد/ والمجد ينتظر الوليد كأنه/ والمجد والعليا على ميعاد/ ترعرع الطفل الرسول فهب في/ دنيا الفساد يبيد كل فساد/ سري كما تسري الكواكب ساخرا/ بالشوك بالعقبات والأنجاد/ بالغدر يسعى خلفه وأمامه/ بالهول بالإبراق بالإرعاد/ ألا لم يزل يمشي إلى غاياته/ وطريقه لهب من الأحقاد

هكذا مضى الشاعر يسترسل في سرده الشعري المجسد للمضامين كأنما عصر التاريخ في كأس من الشعر وقدمها لنا:

دعا قريشا للهدى وسيوفها/ تهفو إلى دمه من الأغماد/ مضى يشق طريقه ويطير في/ أفق العلا والموت بالمرصاد/ يدوس أخطار العداوة ماضيا/ في السير لا واهٍ ولا متمادي/ يركب الأخطار إلا مثلها/ خطر يُعادَى في العلا ويعادِي/ وتصاممت فئة الضلالة واعتدت/ فأتى إليها كالأتي العادي/ اهتاجت الهيجا فأصبحت العدا/ خبرا من الماضي وطيف رقاد/ وتسكنت الأوغاد إلا وثبة/ نارية غضبى على الأوغاد/ ومن القتال دناءة وحشية/ حمقى ومنه عقيدة ومبادي

لا أريد أن أسترسل في تفسير الأبيات، فإيرادها كاملة يغني عن شرحها، ولكن سأكتفي بالتعليق عليها، فهذا المقطع الذي مضى يجسد رحلة النبي صلى الله عليه وسلم الشاقة من مهده إلى لحده، فهكذا توالت الأفعال في الأبيات لتصور تلك الملحمة الخالدة ، بيد أن الشاعر كان يعمد إلى كسر حدة السرد من خلال لجوئه إلى الجمل الإسمية معلقا على ما يجري ومفلسفا له في بعض الأبيات التي مثلت دافعا لاستئناف السرد وسيرورته.

أما في المقطع الثالث فقد خلص الشاعر إلى وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلال صور شعرية مجسدة لعظمة هؤلاء الرجال، لقد وصفهم الشعراء في صدر الإسلام وصفا لايخلو من الملامح الجاهلية، كقول كعب بن زهير رضي الله عنه يصف المهاجرين:

شم العرانين أبطال لبوسهم/ من نسج داود في الهيجا سرابيل/ يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم/ ضرب إذا عرّد السود التنابيل/ لايقع الطعن إلا في نحورهم/ وما لهم عن حياض الموت تهليل

فهذا الوصف- على قوته- نابع من الثقافة الجاهلية القبلية، أما البردوني فقد تمثل الثقافة الإسلامية في وصفه لهذه الثلة المثالية المباركة قائلا:

خاض الرسول إلى العلا هول الدجى/ ولظى الهجير اللافح الوقاد/ واقتاد قافلة الفتوح إلى الفدا/ والمكرمات دليلها والحادي/ وهفا إلى شرف الجهاد وحوله/ قوم تفور صبابة استشهاد/ قوم إذا صرخ العراك توثبوا/ نحو الوغى في أهبة استعداد/ وتماسكوا جنبا لجنب وارتموا/ كالموج في الإرغاء والإزباد

إلى أن يقول فيهم:

هم في السلام ملائك ولدى الوغى/ جن تطير على ظهور جياد/ وهم الألى الشم الذين تفتّحت/ لجيوشهم أبواب كل بلاد / الناشرون النور والتوحيد في/ دنيا الضلال وعالم الإلحاد/ الطائرون على السيوف إلى العلا/ والهابطون على القنا المياد

ليست هذه القصيدة الوحيدة التي أنشأها البردوني في المولد النبوي، فثمة عدد من القصائد تضمنتها دواوينه الأولى، أنشأها في الموضوع نفسه، لاسيما عندما كان مدرسا معيدا في مدرسة دار العلوم في صنعاء، وكانت الدار تحتفي كل عام بهذه المناسبة التاريخية الدينية العظيمة، ولعل الشاعر في تلك القصائد كان يضخ المضامين الحقيقية للإسلام لما في ذلك من تنوير وتثوير في ظل نظام إمامي يتمترس وراء الدين وهو بعيد عن روحه التاريخية المتجددة وعن فكره الإنساني المعتدل، وحثه على التقدم والنماء وإعمار الأرض، ولكنه تمسك بقشوره وتعسف في تأويله وسخره للسياسة، وخدر به الشعب، وقمع طلائعه وثوراته كما يفعل المستبدون في كل زمان ومكان في علاقتهم بالدين، فمن هنا لم تخرج قصائد البردوني هذه عن رسالة تنوير الشعب وتثويره في سبيل تحرره وانعتاقه وتقدمه الاجتماعي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى