التراتيل المهووسة في حب المحروسة

> «الأيام» سند حسين شهاب:

> يتفق أدباء وعلماء وأعلام اليمن أن لحج هبة ربانية حباها الله دون سواها طبيعة تجذب الألباب وتروض قساة القلوب، فجاء إنسانها بالسليقة شاعرا وفنانا وأديبا عالما، وحكت أسفار التاريخ وبطون الكتب عن هامات أفرزتها هذه المدينة المحروسة عبر تاريخها المليء بهؤلاء الرجال الذين كانت لهم اليد الطولى في رسم ملامح تاريخها على امتداد رقعته الجغرافية، بل حتى على نطاق جغرافي أوسع يصل أحيانا إلى الكونية، وليس في هذا مبالغة، والنماذج لدينا لهذه الميزة الربانية التي ولدت فيما يشبه حبا جماعيا لها من كل أهل اليمن، فأمسى حب لحج يسري في عروق الكل، لما لا وهي من أنجبت العظام وصارت مصدر الإلهام.

أحد الذين افتتنوا بهذه المدينة وتاريخها الناصع وأدبها الرائع وفنها الشائع لم يستطع كبت مشاعره تجاه هذه المدينة، رغم أنه ليس من أبنائها، فراح يستفز قرائح شعرائها ببيتين من الشعر كتبها في حب لحج، عل هذين البيتين يمثلان اختبارا إضافيا لهؤلاء الشعراء، وهو كان يعلم في قرارة نفسه أنه بهذه العمل كمن كان يبيع التمر في سوق الهجر.

عبدالله باوزير رجل أكاديمي وشاعر استهوته هذه المدينة، فكتب في النصف الثاني من عام 1996 بيتين من الشعر في حب لحج، داعيا شعراء لحج إلى إكمالها، وقد تولدت فكرة إقامة مسابقة في اتحاد الأدباء في لحج لإكمال البيتين الشعريين لباوزير.

ما أن تم عرض البيتين الشعريين لباوزير على إحدى لوحات مقر اتحاد الأدباء حتى هبت قرائح شعراء لحج التي لم تنتظر طويلا لتمطر تراتيل شعرية، يبدو لي من قوتها أنها كانت السبب في عدم استكمال المسابقة، والله أعلم.

تعالوا نستعرض هذه التراتيل الشعرية المهووسة في حب المحروسة لحج بين باوزير من جهة وشعراء لحج من جهة أخرى.

وإذا لحج بدت أعلامها *** خفق القلب وغناها اللسان

قصر الشاعر عن أوصافها *** فأعيروه بنانا وبيان

بهذين البيتين قدم الأستاذ عبدالله باوزير أوراق اعتماده كسفير غير مقيم في حب لحج، ولم يكمل الأبيات تاركا ذلك لأبنائها بعد أن استعصت عليه مفردات البيانات كما يقول هو.. غير أن محمد حسين الدرزي وهو أحد أبناء لحج وشعرائها كمن كان يترقب مثل هذا المفتاح الشعري ليمطر بهذا الغيث الشعري في حب مدينته التي راح يعدد مناقبها ويفتتن بجمالها العابق وسحرها الناطق وحضارتها التي تضرب بأطنابها في أعماق التاريخ، وفي أبيات الدرزي يلحظ المرء كيف أن هذا الشاعر استطاع أن يزاوج بين الوصف وعناصر التاريخ والجمال والبيئة في هذه القصيدة (المعادلة).

بلحون رددت أنغامها *** زاجلات وشبيهات قيان

يافؤادا هام في رمش مها *** ماسلاه إن للسلو مكان

عج بلحج وتنسم عطرها *** وتهادى بين هاتيك الجنان

وتأمل في مرايا سحرها *** هاهنا كاد يغازل أقحوان

وفراش يتشهى زهرها *** وهزارا لايمل من الأغاني

وأريج في أريج كلها *** مخمل بث كأحلام الغواني

أيها الزائر لحج سرها *** في ثراها وشمائلها الحسان

هنا الرعارع قد تسامى تلها *** بفخار خلته نثر الجمان

ونقايا من بقايا جلها *** في مييتها تبيج الافتتان

هاهي الدلتا بساط أخضر *** يمرح الخير عليه في أمان

هي لحج لانظير لخصبها *** خصبها زرع وفن وبيان

إن لحجا هي مهوى مسمع *** يعشق الحرف وآيات اللسان

لاتسلني عن سجايا أهلها *** وسل النجم وأسفار الزمان

وإذا كان هذا الدرزي قد قال قصيدته في هذا الشأن ومشى، فإن أبيات باوزير هذه قد فعلت فعلها هي الأخرى في قريحة الشاعر الأستاذ فضل مهدي كرد الذي هب (أتوماتيكيا) يتماهى مع أبيات باوزير ويصف مدينته بلغة هي أقرب إلى النجوم، لما لا والرجل قد افتتن بها، وقد أصبحت في نظره هي نشوة الروح وموئل السحر بعد أن أعلن الوصف نفسه عجزه عن أداء مهامه في هذه المدينة:

آية يالحج وقد بنت لنا *** روضة سكانها بيض حسان

يأسرون اللب من نظراتها *** ومن البسمة يأسرن الجنان

أيها الزائر لحجا لاتخف *** إن فيها مدهشات للعيان

خضرة والماء فيها سلسبيل *** جنة يروي ظمأها الواديان

في الحسيني أينع الزهر وقد *** نافس النرجس فيها الأقحوان

جنة الرحمن في أرض له *** قال للسحر أقم فيها مكان

في ليالي الصيف والبدر يغني *** والهوى ينثر أطياب المكان

وسرى النسرين في ليل الهوى *** يلثم الفل برفق وحنان

أيها الواصف لحجا قف وقل *** يعجز الوصف ويستعصي البيان

أترى وصفي لها ينصفها *** إن أنا أرخيت للقلم العنان

لها في كل فؤاد زهرة *** واشتياق ليس يبطيه الزمان

ولها في كل روح نشوة *** خمرة ليست بساق ودنان

نشوة روحية في سحر *** يستطيب الذكر فيها والأذان

وصلاة الله تغشى المصطفى *** ما تردد ذكره في كل آن

الأستاد سالم باحارة شاعر لحجي أمست أبيات باوزير تسري في كوامنه فلم يمتلك إلا التناغم مع هذه الأبيات، فكتب قصيدته التي يعبر فيها عن عشقه الجارف لهذه الخضراء اللحجية إذا كانت العاطفة هي من تحكم المشاعر عند الناس.

وفي مقدمة الشعراء فإن الشاعر باحارة جعل العقل هو الآخر يؤدي وظيفته بعد أن ذهب يصف خصوصياتها التي جعلتها في مقدمة المدن في نظره، ومع هذا فإن باحارة يؤكد أنه ليس بالإمكان أن يعطي وصفا كاملا لمحبوبته، وأن كل ما قاله لم يكن إلا غيضا من فيض:

ليس بالإمكان وصف كامل *** أجروس حسنها فاق الحسان

أو بيانا شافيا نرجو لكم *** فاعذرونا لو أشرنا بالبنان

طالما لحج بدت معشوقة *** محبوبة للكل من قاص ودان

فإليكم لمحة من وصفها *** سوف أفتيكم عن كل بيان

خصبة التربة حلو ماؤها *** في روابيها الخير مادام الزمان

هي روضة بل رياض كلها *** في جناحيها دفء وحنان

سميت خضراء فسمت فاتسمت *** بجلال الوصف يهنأها الرهان

وهي للأدب رمز وبه *** عرفت في عصر وأوان

أنجبت أخيار من أبنائها *** أوضح التاريخ عنهم وأبان

رفعوا من شأنها في فترة *** استتب الأمن فيها والأمان

ألبسوها حلة زاهية *** عقدوا التاج لها والصولجان

خلدوها فغدت أسطورة *** كي يردد ذكرها في كل آن

لم تتلكأ أو تتسوف قريحة الشاعر اللحجي عبدالقادر باغشم عندما استفزتها أبيات الأستاذ باوزير، بل اعتبرت أبيات باوزير وكأن الأقدار قد ساقتها لهذا الباغشم ليكتب في لحج مدينته رائعته الشعرية التي اعترف باوزير بعجزه عن إكمالها من شدة حبه لها، لكن باغشم لم يعجز، بل راح يرتشف من حنانها محبته وحنانه، ويصف خلاها خرير مائها بعد أن دندنت روحه مع أنسامها العطرة وورد حسينيها وتغريد القمري على أغصائها، وهي تذهل القادم إذا ما رآها، وهو فوق هذا الوصف كله يؤكد أن كل ما كتبه لم يصل حتى أقدامها، وأن الأخبار ليست كالمشاهدة:

لحج محبوبة لدى أبنائها *** وثق التاريخ تبيان البيان

كل وافٍ بالمحبة صانها *** والشقي عربد وفي الآخر يهان

الإحاطة ثبتت عنوانها *** هكذا الحوطة عاشت في أمان

ما ترانا نرتشف من حنانها *** المحبة والإخوة والحنان

تقذف العنبر نعم شطآنها *** مثلث في الوسط يسدي الضمان

الحلا مألوف في أطرافها *** وجوانب لابسات الأدهمان

وخرير الماء مفرق رأسها *** عن تلع حدث إذ آن الأوان

دندنت روحي مع أنسامها *** وكسا ورد الحسيني كوكبان

غرد القمري على أغصانها *** الروابي الباسقة مثل الجنان

يذهل القادم إذا ماعانها *** زهرة الدنيا وحسناء الزمان

انطباعي ما وصل أقدامها *** وكذا الأخبار ليست كالعيان

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى