إلى والدي في ذكرى وفاته الأولى

> «الأيام» عبده يحيى الدباني:

> قبل أسبوع من وفاته كنت في مدينة تعز الحالمة.. كان الوقت ليلا وكنت نازلا في أحد فنادقها ضمن القافلة الأدبية التي انطلقت من عدن.. مرت الساعات ثقيلة طويلة، لم يقرع النوم باب غرفتي إنه القارع الوحيد الذي لم يكن مزعجا، كان ثمة شعور غريب يسيطر علي! كنت حزينا بعد ظهيرة قاتية غير اعتيادية - قاتل الله القات- بيد أن ذلك الوجوم لم يكن قاتيا، لم أعرف سر تلك الليلة الحزينة إلا في الليلة نفسها من الأسبوع الذي بعد، إذ كان أبي يحتضر عند طرف قصي من القرية القائمة فوق جبال حالمين الشاهقة، اشتد المرض فجأة عليه، طرت إليه صباحا من عدن، طرت على الأرض طويتها طيا إليه، كنت أدعو الله أن يوفقني أن ألحقه حيا واعيا، أدركت أنه المرض الأخير، دعوت له بإلحاح في سفري إليه، مسرعاً مررت بمدينة (الحبيلين) وهي تموج بالمتظاهرين في أول موسم للحراك الجنوبي، ثم تسلقنا الطريق الوعر الخطر الذي يربط الحبيلين بجبال حالمين، وفي الثانية بعد الظهر كان والدي أمامي، بل كنت أمامه، نظر إلي وعرفني، قبلته في جبينه ورأسه، كان محموما.. هل هذه هي سكرات الموت؟ اللهم رحمة بهذا الشيخ الكبير، لقد أخذ الزمن والأمراض منه كل حيويته وعافيته وحركته وجسده، لقد صار جسدا آخر تماما، كل شيء فيه تغير..أين ذهب ذلك الكهل القوي؟ آه من كر الليالي والأيام!

كان في نظري رمزا للقوة والقدرة والشجاعة، حتى في شعره كان قويا، اسمع له وهو يقول:

حنيني - قال ابن صالح حنين الشامخ الراكد

لما ألين عرق وانزّ

له للقاع متفارد

وقوله كذلك:

ياليتهم بايقولوا من سبق يسبق

باشل لي ذي عليه النفس مشتاقة

حنين حنيت لما الحيد باينشق

والين الحصن لما اكسر أذلاقه!

ترى أي قوة جبارة يكتنزها الشاعر حتى يستطيع بحنينه أن يفجر الجبال ويحطمها ويزيحها من أماكنها، فكل من (عرق) و(الحصن) اسم جبل من جبال القرية، كما أن (الشامخ الراكد) صفتان للجبل، والحيد أيضا يعني الجبل الشاهق القوي، ولم أجد فيما قرأت وسمعت من الشعر شاعرا يفجر بحنينه الجبال، ولم أعرف سر هذه النزعة في كثير من شعره، ولعل في ذلك كناية عن قوة حنينه، فهو يحس بأن حنينه لايضاهي في قوته وثورته، فأطلق ذلك على الجبال. هاهو اليوم أمسى في أضعف ما يكون عليه الإنسان، عيناه تحدقان في السقف، يبدو نائما- قيل لي إن هذا ليس نوما، قلت له هل عرفتني؟ هز رأسه بالإيجاب وحاول أن ينطق اسمي ولكنه لم يستطع، أخرج صوتا غير واضح.. الحمد لله إذ أدركته وعرفني وشدَّ بآخر ما تبقى له من قوة على يدي، نظر إلى الباب ورأى حفيده (ولدي) واقفا فحملق فيه برهة حملقة ذات معان، سكن جسمه المحموم، توقف الزفير، هدأت الأصوات، حرك إصبعه بالشهادة.. نظرت في الوجوه، نظروا في وجهي بصمت، أدركت أن روحه تغادرنا الآن، كان وجهه باتجاه القبلة ويده اليمني تحت رأسه، كانت يدي تتنقل بين جبينه ورقبته ويده، ومايزال هناك نبض، كأنه ذهب في نوم.. هل هذا هو الموت؟ لم أشهد موت أحد من قبل.. همس أحدهم بجانبي لقد مات!! صحت فيهم بصوت باكٍ انتظروا.. لا لم يمت بعد، لم يجدِ كلامي، طار الخبر في أرجاء المنزل، فتصايحت النساء وفزع الأطفال وتمتم الرجال، وضعت يدي في جسده المسجى أتلمس أي نبض، كنت أجد حرارة خفيفة ولا أجد نبضا، أكدوا لي أنه قد مات.. قبلته في رأسه وجبينه بكيت بكاء قصيرا مكتوما، رحمته من الموت، وكان الله تعالى قد رحمه بالموت من حياة ليست إلا تعبا وألما وعجزا وصراعا مريرا مع المرض والشيخوخة، انفتحت أبواب السماء ساعتها بأمطار غزيرة، كنت أركض من غرفة إلى أخرى أهدئ أقارب الميت مع أنني أقربهم إليه، كان المطر ينهمر وكنت أحاول أن أخفف من عويل النساء، تماسك الأهل حين رأوني متماسكاً محتسباً.

يتبع

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى