الفنان الكبير محمد مرشد ناجي.. قراءة نقدية في أغنية (عن ساكني صنعاء)

> «الأيام» عصام خليدي:

> في هذا المقام سنعرج على هذه الأغنية ذات القصيدة الحمينية، كلمات الشاعر والقاضي العلامة عبدالرحمن بن يحيى الآنسي، لنستخلص من هذا اللحن البديع والرشيق (أهم خصائص ومميزات المرشدي الملحن المتجدد والمتطور) منذ بدايته الأولى مرورا بمشواره الغنائي الزاخر والحافل بالعطاءات الإبداعية وبالتألق والمفاجآت.

البداية: المقدمة الموسيقية والاشتغال على خلق جمل موسيقية جديدة مبتكرة مغايرة عن ما كان سائدا في ذلك الوقت، فإذا استمعنا للمقدمة الموسيقية جيدا وقمنا بتحليلها علميا سندرك أنها لحنت على (مقام البيات على درجة الدوكا)، واستخدم فيها (إيقاع الشرح الثقيل 8/6) وكانت المفاجأة في (تراكيب جمل موسيقى صولو العود)، حيث استخدم المرشدي (تكنيكا عالي المستوى ورفيعا) بطريقة (مضاعفة سرعة الريشة وزيادة الوحدات) إذ إن العود متناغم بانسجام بديع مع الكمانات وبقية الآلات الوترية في قوام الفرقة الموسيقية، فاستطاع أن يخلق ويبتكر مقطوعة موسيقية فائقة الروعة والجمال، ثم يبدأ بعد ذلك التمهيد الموسيقي والغناء بطريقة حديثة وجديدة نجد بها روح وإحساس ومدرسة (المرشدي) فلم يخضع لخصوصية وطبيعة النص الحميني المعروف والتقليدي، الذي عادة ما كان يكتبه شاعر القصيدة الحمينية، وعرفت قصائده ملازمة ولصيقة بأهم الموشحات الصنعانية اليمنية، لكن قدرة المرشدي الموسيقية الهائلة مكنته من الخروج من دائرة الصياغات الغنائية الموسيقية (الإحيائية) باشتغال جاد مبتكر تمرد به على (تبعية النص الغنائي الحميني وهيمنته على فرض أسلوب محدد ومعروف بصياغات لحنية على النمط الغنائي التقليدي المتداول والسائد).

فقد تجسد نجاح (مرشدنا) بتلك المقدمة الموسيقية الرائعة وفي الخروج والتمرد على قوالب التلحين بطريقة (الموشح الصنعاني التقليدي) التي فرضته القصيدة الحمينية منذ زمن طويل جدا، والواقع أن رغبة ونزعة المرشدي لتطوير الغناء اليمني إلى أسلوب آخر جديد مكنته من التفوق والإجادة والإبداع بمهارة في تخطي تلك (المخاطر الفنية الصعبة) وتألقه بنجاح هذا اللحن وأدائه العظيم في إحدى تجلياته المدهشات المتكئة على اشتغالاته الواعية، وبناءاته المعمارية اللحنية الموسيقية المترفة الثرية، فإلى مذهب الأغنية التي صاغها من (مقام البيات على نغمة الدوكا):

عن ساكني صنعاء حديثك هات

وافوج النسيم

وخفف المسعى وقف

كي يفهم القلب الكليم

هل عهدنا يرعى ومايرعى

يرعى العهود إلا الكريم

ثم يزداد إبداعه وتألقاً وروعة في الكوبليهات التي يقول فيها:

تبدلوا عنا!

وقالوا عندنا منهم بديل

والله ماحلنا

ولا ملنا على العهد الأصيل

مابعدهم عنا يغيرنا

ولو طال الطويل

بالله عليك ياريح

أمانة أن تيسر لك رجوع

لمح لهم تلميح

بما شاهدت من فيض الدموع

والشوق والتبريح

والوجد الذي بين الضلوع

إن المرشدي حينما نسمعه يردد هذه الأبيات الشعرية مموسقة ملحنة بتنويعاته النغمية التعبيرية والتطريبية بصوته الذهبي الدافئ والشجي نشعر وكأنه يحترق لوعة وعشقا وهياما للوصول لمحبوبه الغائب، وفي الحقيقة نجح (أبوعلي) ببراعة واقتدار في ترجمة أبيات ومفردات ومعاني قصيدة شاعرنا الكبير القاضي العلامة عبدالرحمن بن يحيى الآنسي وفي التعبير عن مكنوناته ودواخله الشعورية من خلال اللحن الجميل الذي أتحفنا به، وبكثافة الأحاسيس والشوق والشجن التي امتزجت لتشكل مع صوته وحدة فنية متماسكة ونسيجا رومانسيا عاطفيا، عكس صورة ذلك الزمان الجميل بكل صدق وأمانة، ونحن لانملك إلا تسليط الضوء صوب هذه الأغنية التي تعتبر نموذجا ومثالا لروائع أستاذنا الجليل الفنان محمد مرشد ناجي، ودوره الريادي وخدمته لتطوير الغناء اليمني، فهي بقيمتها الموسيقية والغنائية من وجهة نظري تشكل علامة بارزة وبصمة مهمة أضيفت إلى رصيده الغنائي الموسيقي المشرق والمشرف، ورفدت مع عطاءاته الغنائية الموسيقية بثراء دافق مسار الغناء اليمني واستمراريته وتألقه نحو الأفضل والأجمل. للفنان القدير محمد مرشد ناجي العديد من المؤلفات والمطبوعات التي تختص بشؤون وقضايا الغناء اليمني القديم والمعاصر، وقدم الفنان الكبير محمد مرشد ناجي مجموعة متميزة من الأصوات ودفعها لساحة الغناء اليمني مدعمة بألحانه ورعايته، ومن أبرز هذه الأصوات الأساتذة طه فارع، بهذه الأعمال: (هجرت وأبعدتني) (غلطة عمر) (يخاصمني ويضحك لي) (مرحب رمضان)، الفنان عبدالرحمن حداد: (حبيب القلب) (لقيته ياماه) (حارس البن)، الفنان محمد صالح العزاني: (أنت السبب) (وأبوي أيش الذي صار) (اشتقت لك) (يالله السبق).

واشترك العزاني وأحمد علي قاسم وفتحية الصغيرة في اسكتش (بنت الأكابر)، وقدم للفنان عصام خليدي (حلفت ما شفرقك)، كما قدم الفنان محمد مرشد ناجي مع الخليدي والفنانة نوال حسين مقدمة المسلسل الإذاعي (الرهينة) وللفنان أبوبكر سكاريب قدم أغنية (مش معقول) وللفنان أحمد علي قاسم أغنية (ريح الشروق) وللفنانة أمل كعدل أغنية (بامعك).

كما غنت بالاشتراك معه أنشودة (الوحدة اليمنية)، وقدم أيضا للفنان الجميل محمد عبده زيدي أغنية (فلسطين) وللفنان عوض أحمد نشيد (ياجيلنا) وللفنانة المتميزة رجاء باسودان قدم أغنية (داري هواك داري) وللفنان محمد عبده سعد أغنية (طول جفاه) أما مع المنلوجست المبدع والقدير الفنان فؤاد الشريف فله العديد من الأعمال الرائعة والجميلة، أتذكر منها هذه المنلوجات:

(القات) (كركر جمل) (منلوج الزار) (ياناس حلو المشكلة) (امنعوا الهجرة) (حلو لو) (سير ياطير سير) (يامجلس تشريعي، عملت أيش بالبلدية)، وغيرها من الأعمال الناجحة التي حققت انتشارا واسعا وجماهيرية. تعامل الفنان الكبير محمد مرشد ناجي مع كل لهجات وألوان الغناء اليمني فأبدع (تحفا فنية غنائية نادرة).

لايستطيع تقديم أعمال (المرشدي الغنائية) بإجادة وإتقان أي فنان لأسباب كثيرة، فهي تتطلب مواصفات ومميزات لاتتوافر إلا بصوته وثقافته الواسعة، من أبرزها عذوبة وصفاء ونقاء الصوت ورصانته بالإضافة لسلامة ووضوح مخارج الألفاظ وقدرته الفذة على توصيل المعاني والكلمات معتمدا على براعته وحنكته في إتقان (فن الإلقاء الصوتي وطرائقه المتعددة المختلفة).

أحب الفنان محمد مرشد ناجي، وتأثر بأصوات وأسلوب العمالقة الشيخ علي أبوبكر باشراحيل، الشيخ محمد جمعة خان، الشيخ عوض عبدالله المسلمي، ورائد الأغنية العدنية خليل محمد خليل، وسالم بامدهف ومن الوطن العربي موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب.

تعامل فناننا المبدع (المرشدي) مع معظم المقامات الموسيقية الشرقية العربية واستخدمها في أعماله منها: البيات/ الهزام/السيكا/ النهوند/ الحجاز/ والحجاز كار كورد/ الرصد، وغيرها من المقامات الأخرى.

الفنان محمد مرشد ناجي ابتدأ مشواره الغنائي الموسيقي من (القمة) بأغنية (هي وقفة) وظل متربعا محافظا على مكانته وجمهوره ومحبيه.

ختاما كتبت هذه المادة تقديرا وعرفانا لمكانة ودور الأستاذ الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، في مسار الغناء اليمني وتطويره، وهي في المقام الأول (رسالة حب ووفاء) للرجل (أطال الله في عمره)، كما أشعر أن الظروف مناسبة لنشرها، وهو مايزال بيننا متمتعا بصحته وعافيته، فلاتجدي المقالات والمراثي بعد أن يرحل المبدعون وفي قلوبهم حسرة ومرارة الجحود والنكران.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى