قصة قصيرة .. تفاصيل إضافية لموت الفراشة

> «الأيام» صالح سعيد بحرق:

> تعلم أنه في مكان ما من حياتها، توجد رغبة في التحرر من قيود ثقيلة، لكنها لم تكن قادرة على التعبير عنها بالكلام، كانت تختلق أساليب أخرى، لإظهارها، كالرسم، كانت ترسم باستمرار وجوها كثيرة، وجوها معتمة، ذات عيون مطفأة، وشفاه متدلية بلهب، كانت تعتقد أن هذه الوجوه هي التي تأسرها، وتشعل حياتها بالألم، لذلك كانت تحاكمها بالصورة، واللون، والظل، محققة بذلك نوعا من الاندماج معها.

كان مرسمها الصغير يقع في حجرة متهالكة من الطابق الأعلى في منزلهم، وتشرف نافذته على فناء لأشجار السرو، كان ذلك الفناء مسرحا للطيور والعصافير الصغيرة، وفي الحالات التي كانت تشعر فيها بالضجر، كانت تقضي الوقت تتأمل ذلك الفناء، ثم بعد ذلك تمارس الرسم، وكانت ذاكرتها لاتلتقط شيئا من تلك الطبيعة التي تعيش في كنفها، وكأنها تستلهم رسم الوجوه من طبيعة أخرى غير واضحة لها.

أنجزت حتى نهاية شهر آب لوحة متداخلة، عفنة، وباردة، ورسمت حائطا لمدرسة، كانت وهي ترسم هذا الحائط تحس بخيبتها في عدم التحاقها بالتعليم مثل بقية الفتيات.

وطفقت وهي تخلي صدريتها الداخلية تسترجع تلك الكلمات المؤلمة التي انهمرت ذات يوم في هذه الحجرة، لم تعد تتذكر منها سوى وجه معتم، وحيد، كان يغتالها كلما فكرت في التعليم، ثم أصبح بعد ذلك كل شيء في نظرها مؤلما.

كانت تجد ذاتها الحقيقية وهي ترسم، إنها تتفوق على ضعفها وانهزاماتها وعلى خذلان المحيطين بها، إنه يمكن لها بواسطة الريشة أن تصعد إلى ما تريد وأن تقول كلمة ما، لذلك راحت ترسم تلك اللوحة الجديدة بفرح كبير، وكانت تقبل على الألوان القاتمة بنهم ينبش آلامها الدفينة.

كانت بين الفينة والفينة تترك اللوحة لتطل على ذلك الفناء، كانت تبدو في هذه الحالة أشد تحررا، وكانت تشعر بانعتاق كبير من أسر قوى مجهولة، وكانت أحيانا تترك يديها طليقتين من ريشة الرسم، ويحلو لها أن تقف بقامتها الهزيلة أمام اللوحة، حتى أنها لتتوق إلى العري أمامها، لكنها لم تكن لتصنع ذلك ألبتة. وكانت الألوان بعد ذلك تنهمر على أصقاع موحشة من جسد اللوحة، وكانت الوجوه تنحسر، ويتكشف زيفها وتبدو إدانتها أمرا ممكنا.

وبدأت تشعر أنها تفقد أشياء مهمة من حياتها، وأن روحها المضطهدة تغادر الحجرة وتطوف في ذلك الفناء، توقظ العصافير الغافية على أشجار السرو، وكانت اللوحة قد قاربت على الانتهاء، وقد تراجعت إلى الخلف عشرات الوجوه التي أعاقتها.. أخذت اللوحة في لحظة حاسمة بيدين مرتجفتين وأسلمتها إلى المرسم، كانت تلك الألوان القاتمة قد بدأت تتزاحم، وكان ذلك اللهب قد بدأ ينز من شفاهها، كان يسيل على أرجاء اللوحة، ويضيء جنباتها، وكانت هي تحترق به من الداخل، وبدا لها أن تتمدد بقامتها الهزيلة على جسد اللوحة، كانت تود انتهاك هذا المشهد بشدة.. تمددت بلظى محموم على الألوان، والخطوط، والظلام، وراحت روحها- في خلسة- تغادر الحجرة إلى الفناء العامر بأشجار السرو، فيما كان ينبعث من حجرة الرسم لحن جنائزي مهيب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى