إبراهيم الكاف.. القيمة والقلم

> «الأيام» عبدالرحمن عبدالخالق:

> إن ذهب قول «من الصعب أن يكون المرء سهلا» مذهب الحكمة، فالأكثر صعوبة- عندي- أن أصف أو أكتب عن امرئ يسمى إبراهيم الكاف، والصعوبة مكمنها في أن الرجل من ذلك الصنف السهل الممتنع، السهل حد الشموخ.

جاء يوما إلى عدن من أطراف حضرموت، من مدينة هي الأخرى بسيطة، من الغناء (تريم).

ثمة مدن تشبه ناسها.. مدينة فيها من عبق التاريخ والروحانية ما يكسو هذا العالم ويفيض رقة ووداعة.

سكن عدن بعد أن كانت سكنته، أبدع فيها أسرة هي كل ثروته، عدته وعتاده، وتاريخا صحافيا وأدبيا حافلا كتبه بمداد قلبه، وكتبه مجدا.

بدأ الصحافة شابا في صحف الرابطة، وتسنم رئاسة تحرير إحدى صحفها «الفاروق»، في أواخر ستينات القرن الماضي، عمل مع الأستاذ محمد علي باشراحيل صاحب ورئيس تحرير صحيفة «الأيام» وعميدها، وكان له عمود فيها باسم (غصن الزيتون)، وأخذته الصحافة بعد الاستقلال في سكتها، فعمل في الصحافة العسكرية والأمنية «الحارس» و«الجندي» و«الراية»، وترك فيها بصمات لاتخفى على ذوي المهنة والبصيرة، ما يضعه في طليعة روادها.

لاغرو أن قلنا إن إبراهيم الكاف يعد من أبرز الصحافيين اليمنيين المحترفين، أعطى جل عمره للصحافة، وكان لصحيفة «14 أكتوبر» التي ارتبطت بهذه المدينة وتاريخها منذ فجر الاستقلال حتى اللحظة النصيب الأوفر من جهده، فتدرج في سلالمها بخطى واثقة معززة بالكفاءة والاقتدار، وقادها من خلال موقعه كـ(رئيس مجلس إدارة مؤسسة 14 أكتوبر للصحافة والطباعة ورئيس للتحرير) في ظروف صعبة واستثنائية إلى بر الأمان ليجازى جزاء (سنمار)!.

ولم تعجز الكتابة الصحفية عن حث مكمن الإبداع الأدبي لدى إبراهيم الكاف، وسرعان ما جرته إلى مربع الكتابة القصصية، فكانت البداية مع قصة (الهدية) عام 1964، التي اختارها لتتصدر مجموعته الأولى (الانفجار) الصادرة عام 1984 عن (دار الهمداني للطباعة والنشر).

وإن كنت بدأت عجالتي- هذه- عن الأستاذ إبراهيم الكاف بحكمة تقول: «من الصعب أن يكون المرء سهلا» فلا جناح علي إن صنعت حكمتي الخاصة قياسا عليها، وقلت: من الصعب أن تكون القصة سهلة، لكنها كانت كذلك عند إبراهيم الكاف، والسهولة لاتعني إلا التفوق الفني، وضبط المعادلة بين الرقي الفني والبساطة، والابتعاد عن الحذلقة اللفظية والتعمية باسم الفن، السبيل الأسهل عند البعض.

لا أدعي- هنا- أننا بصدد تقديم رؤية نقدية للمنجز الإبداعي للقاص إبراهيم الكاف أو لبعضه، فهذا أمر غير متيسر لي ولا مقامه هنا، إنما هي شهادة قارئ وتلميذ محب، أو إنها همسة بصوت مرتفع لدراسة الدفتر الإبداعي للقاص الذي بقي في حياته في «منطقة الظلال الشفاف» حسب وصف الشاعر نجيب مقبل في تقديمه للمجموعة الثانية للقاص إبراهيم الكاف الموسومة (الصوت والصدى)، وأنصفه بقوله: «فأسلوب الكاتب الأدبي المتمكن وصنعته القصصية أقوى من أي وضع يمكن أن ينسب إليه، وإن أي عين نقدية بصيرة وهي تلتقي لأول مرة مع إبداعه تكشف البون الشاسع بين أي تقييم موضوعي له ولموقعه في سلم الكتابة القصصية، وهذه الظلال تمنع عنه حالات الشهرة والنجومية التي يتسلقها البعض ويأباها هو على نفسه.

يبدو أن القاص إبراهيم الكاف في أعماله القصصية شخصية قلقة مسكونة بهموم مجتمعنا، لهذا نجده يعري زيف الواقع ورخاوته، ويُعمِل مشرطه فيه بهدوء وروية، وتحديدا وجهه السياسي والاجتماعي والأخلاقي فنجده- مثلا- في قصة (هذيان) من مجموعة (الصوت والصدى) يقول على لسان البطل بصيغة استنكارية: «إلى متى سيبقى الإنسان كالحيوان، يقتل ويأكل بعضه بعضا لأتفه الأسباب». ويصور في آخر القصة سيادة اللامعقول على المعقول اللامنطق على المنطق الفوضى على النظام القبيح على الجميل الشعارات على الفن، وإن إلى حين: «مد يده إلى جهاز تسجيل بالقرب منه، صدحت موسيقى عذبة، ثم بدات (ليلى مراد) تشدو بأغنيته المفضلة (حبيب الروح)، هيج صوتها الرخيم شجوه فشرع يردد- معها- يصوت مكلوم: ياحبيب الروح فين أيامك...

وفجاة ارتفع صوت أحدهم عبر مكبرات الصوت في إحدى العمارات المقابلة تصاحبه جوقة من المرددين خلفه:

صبوحة خطبها نصيب

أوه.. خطبها نصيب!!.

كان عاليا صخبا، فطغى على كل الأصوات».

وفي قصة (الخنجر) من المجموعة نفسها (الصوت والصدى) كتبها في (99-89)، نراه يستشف القادم بعين بصيرة، فبطل القصة الذي تحول عن حياة المجون التي طبعت شبابه وقبل زواجه وظل يحلم بالترقي الوظيفي بل بما هو أبعد من ذلك، مضى الزمن به دون أن يفظن لتسارع خطواته، وتغيرت الأحوال ودارت الأيام ليجد نفسه يبيع كل ما يملك، ولم يتبق لديه إلا خنجره الثمين الذي قرر بيعه كآخر ما يملك، وذهب إلى محل عبده الصنعاني لبيع وشراء الخناجر والسيوف، والذي أثناه عن بيع خنجره قائلا له: «الرجل منا لايساوي شيئا بدون الخنجر»، وأن الخنجر هو ما يميز الرجل عن المرأة، والخنجر هنا ثقافة، ترميز لقيم القوة والسلطة والوجاهة الاجتماعية القائمة عليها، لقيم سياسية واقتصادية واجتماعية، فسرعان ما (حفظ) بطل قصة (الخنجر) الدرس وأبقى على خنجره: «وهكذا بقيت حريصا على خنجري، بل وظللت أتمنطق به وأزهو في مقايل القات وجلسات السمر.. و..

ثم أكرمني الله فتعرفت على أناس جدد ذوي مال وقوة ونفوذ، وانفتحت أمامي دروب كثيرة ممهدة للتكسب والاغتناء بفضل الخنجر.

.. وبدا لي أن الدهر سيصفو فاطمأنت نفسي وراح القلب يرقص فرحا بقرب انجلاء الهموم».

أختتم شهادتي المتواضعة بالقول إن ما يلفت النظر في إبراهيم الكاف هو إنسانيته المفرطة وحضوره اللافت الجميل، فمازالت ابتسامته وضحكته وحديثه المازح يرتسم أمامي، وكان كل ذلك يجمعه مع خيرة صحفيينا في «14 أكتوبر»، وتحديدا القرشي عبدالرحيم سلام وعوض باحكيم وشكيب عوض ومعروف حداد وأحمد مفتاح وعلي فارع سالم وعصام سعيد سالم رحمهم الله جميعا ومحمد عبدالله مخشف وعمر باوزير وآخرين كثر.

أما ذكرياتي الشخصية مع إبراهيم الكاف فكثيرة، ويكفي أنني كنت له في مقام التلميذ المحب، ودقائق جمعتني به في صنعاء قبل وفاته بأيام قلائل فيها من الشجن مساحة بلاد سرقت منا ذات غفلة.

لإبراهيم الكاف الرحمة والمغفرة!.

* قدمت إلى الفعالية التأبينية التي نظمها اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين فرع عدن ونقابة الصحفيين اليمنيين في عدن في 21 سبتمبر إحياءً لأربعينية فقيد الصحافة والأدب في اليمن الأستاذ إبراهيم الكاف.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى