دعوة للنقد: قراءة في رواية (زهافار) لياسر عبدالباقي

> «الأيام» جمال الشريف:

> والحقيقة أرى كذلك في سطور تلك الرواية التي بين أيدينا , عدم الحيادية من الكاتب على بعض أشخاصها الموجودين في بعض الأماكن المتاحة لهم والمسموح ظهورهم فيها أو اختفائهم عنها .. إن ذلك التخوف غير المبرر من الكاتب من أبطال روايته , يبدو واضحاً.

ومن خلاله أستطيع أن أرى بوضوح حرص الأديب الشديد على تمكن أبطاله من الخروج عن الإطار أو الدور المرسوم لهم بعناية فائقة وبشكل مسبق.. لذلك فهم أبطال لا يملكون إرادتهم في التعبير عن رغبة التغيير لواقعهم, وقدرهم المفروض عليهم . لذلك فهم أشبه بالدمى المتحركة في مسرح العرائس , أو أنهم كالرسوم الكرتونية في تحركهم الكاريكاتوري , وتنقلهم عبر الحدث الطبيعي لوقائع السرد الروائي .

وباعتقادي أن رواية (زهافار) قد صممت أحداثها مسبقاً, وفصلت لأبطالها الأدوار .. رواية تم بناؤها وتكوينها ومعالجتها على عجل, ووضعت لها كل الاحتمالات لتكون الرواية التي بين أيدينا اليوم وبهذا الشكل .. لذلك فالرواية لم تستطع أن تقود مؤلفها وتملي عليه موضوعها الرئيس وقصتها الحقيقية, وحتى أنني لا أجدها رواية قدمت تجربة الأديب الصادقة وبكل أبعادها وتعقيداتها ولأنها أيضا لم تقم بالبحث الدقيق والتحري الكامل عن الموضوع التي أرادت تقديمه وتسليط الضوء عليه لتظهر ظلاله واضحة تصاحب الصورة الحقيقية وترافقها في المكان والزمان للحدث , ولأن الرواية الحديثة والجيدة باعتقادي هي الرواية التي تكون أحداتها قامت على نتيجة البحث, بل أنها تكون هي البحث بذاته, أنها مغامرة الكتابة , تشرك القارئ في صنع الحدث, والدخول بتلك المغامرة , وليس فقط تفرض عليه متابعتها عن بعد باطمئنان واسترخاء, ولا حتى بنوع من السخرية أو الاستهتار بمدارك القارئ واطلاعه الواسع .. ولاشك أن كل رواية تعتمد في سياقها على فكرة معينة تطرحها للمناقشة, وتضع رؤيتها وتصورها في بلورة تلك الفكرة، وإظهار مدى قوة الإقناع والحجج التي تمتلكها لذلك الطرح .. ولا أعتقد أن الرواية أي رواية هي مجرد كلام فارغ دونما غاية تحملها في سطورها . بغض النظر عن إمتاعنا أو خذلنا , ولا أتحدث هنا عن مقاييس معينة يجب أن تعتمدها الرواية كقاعدة أساسية تتطلب في إعدادها وصياغة أحداثها, ولا حتى في إظهار نجاح الكاتب وقدرته المتمكنة ومهارته العالية وخبرته الطويلة في امتلاك التقنية الرائعة لتحوز على إعجابنا وتؤثر فينا.. لكنني أرى أن ذلك الهم الكبير المتزايد والمتفاقم , وكذلك القلق الذي يحمله الأديب معه , وفي عقله وفكره عن الكثير من القضايا والمشكلات في مجتمعه الذي ينتمي إليه, والعالم الكبير الذي يعيش فيه , وحينما يسعى جاهدا للتعبير عنه بحرية وبصدق من خلال كتابة نصه الأدبي. وهو أمر في غاية الأهمية , وهو باعتقادي يكون موضوع الرواية , ويشكل فكرتها الرئيسة التي تقوم عليها أساساتها السليمة, وهياكلها القوية, وبنيانها الراسخ الذي يقوي ويدعم أركانها, وكل زواياها .. لكنني في رواية (زهافار) أجدني قد افتقدت ذلك القلق والهم الكبير الذي يحمله الكاتب ويعانيه , ويسعى من خلاله لطرح قضاياه المهمة, لم ألتمس ذلك بشكل واضح , وهو الأمر المطلوب من الأديب إبرازه ووضعه أمام أعيننا, ليبهرنا ويدهشنا, ويحرك رغبتنا في المتابعة ومواصلة القراءة بنفس الحرارة والحماس, ويشدنا أكثر في محاولة تحليلنا وتخميناتنا, ووضع كل الاحتمالات التي تجعلنا نشارك المألوف في جرأته وإقدامه, وفي مساهمتها الإنسانية في عرض المشكلات والقضايا المختلفة عند خلق نصه .. لذلك فإني أجد رواية (زهافار) تفتقد إثارة الحماس فينا، وتفتقر لأسلوب الإدهاش الذي يخلق ويقوي مضمون الفكرة الرئيسة التي هي دون شك مدار حديث الرواية, ومثار الجدل فيها والنقاش, وإن كانت تسعى لذلك الأمر بصعوبة شديدة , وتجاهد بضبابية وتردد في محاولة طرح موضوعها المحوري الخاص الذي أرى أنه موضوع مكرر, وربما قديم (سرقة الآثار) لتدور أحداثها المختلفة عليه وترتكز عناصرها الداخلية هزيلة وهي تحاول أن تدعم بناءها وتكوينها الفني الذي بدا بشكل واضح وكان مقتبساً من الأفلام السينمائية.. فموضوع الرواية الذي لا نجد أية صعوبة أو مشقة في معرفته وإدراك غايته والخلوص إليه من أول وهلة عند قراءتنا لسطورها, التي يقودنا إليها الكاتب دون اهتمام أو عناية , أو حرص على أن نصل إليه ونبلغ نهايته المتوقعة , ومن أنفسنا, وفي معرفة تسلسل أحداتها ووقائعها المختلفة .. إن ذلك الفتور واللامبالاة في إمساك زمام النص والهروب غير المبرر من الكاتب في إحكام قبضته على مجرى الأحداث , والتخلي عن قيادة النص بشكل واضح وواثق يجعلنا نتساءل عن مكان ومدى وجود عنصر المفاجأة المباغتة في النص , التي من شأنها أن تحدث فينا الانبهار والإعجاب .الأمر الذي لا شك أنه سيلغي حماسنا, ويفقدنا الاهتمام في المتابعة, وملاحقة الكاتب في طريقة سرده للأحداث.

إننا نجد أنفسنا آمنين ومطمئنين من نجاحنا وتفوقنا في احتواء كل الأحداث حتى قبل أن ننتهي من قراءتنا سطور الرواية والفراغ منها, لذلك فإنني أجدها رواية عادية جداً , لا ترتقي إلى مستوى العمل الفني المثير والإبداع الأدبي الذي يبقى تأثيره فينا زمناً طويلاً نجتر أحداثه ونتلذذ بأسلوبه وطريقة معالجته المغايرة التي نبحث عنها في ذلك العمل الروائي الذي كنا نتمنى أن يحمل الشكل الجديد والأسلوب الحديث للرواية ويوازي التطور المادي المتزايد والمقترن بالمرحلة والعصر الذي نعيشه , وبحثنا فيه عن المتنفس في المعالجة التي تخرجنا من سطوة الواقع المرير وضغطه اليومي علينا , الذي لا شك يصيبنا بالخيبة والإحباط. لذلك أجد أن رواية زهافار استطاعت أن تدرك الواقع فقط .. ذلك الواقع الخالص , ونفذت إليه بثقة محض , مدركة أنه هو ذاته , وتغلغلت خلاله تفصح عن صوره الموضوعية الرتيبة, دون ذلك الطموح المصحوب بالتواضع لرسم خطوط جديدة مغايرة له, أو حتى تضع احتمالات تجاوزه, والخروج عن المألوف فيه والركون إليه في قيادة وقائع السرد , وتسلسل الإحداث .. بيد أننا ندرك تماما أن الإلهام , لا يمكن أن يأتي من خارج واقع العالم الذي نعرفه ونعيش فيه , لكننا نعي تماماً أن الإبداع يتطلب إلهاماً حقيقياً , يأتي من العالم نفسه, لكنه عالم في طور التغيير, تمر من خلاله الأشياء والأشخاص لتتحول إلى كلمات وجمل , وفكر ورؤية مستقلة , تعطي للأديب نبرته الخاصة ومذاقه المختلف, ترسم له أدواته , ووسائل معالجته التي يستخدمها في إثبات هوية نصه .. وهو مجال خاص متميز بالذاتية للفرد..أنه ليس أمراً عاماً ومشتركاً بين الناس .. فالإبداع الحقيقي لابد أن يجبر الأديب أن يضع طابعه الفردي الخاص الذي يستمد من حياته الباطنية التي لا يشترك فيها معه أحد , وهنا يكون معنى الشيء النادر في النص , في العمل الأدبي المغاير الذي كنا نأمله ونتوقعه بل وننتظره من رواية (زهافار).

إن الندرة التي نعنيها في العمل الأدبي والروائي , هي بكل تأكيد خصوصية الأديب في قراءة الأحداث المحيطة في عالمه, إنها قدرته على انتزاع المصدر الأساس للحدث والمشهد الإنساني المتكرر بشكل يومي وتسليط الجانب الخفي منه, الجزء الذي لا يخطر على بال أحد من الناس العاديين, إنه إظهار الانفعالات والتناقضات وكشف المستور والغامض فيه وتفسيره جوانبها من عده أوجه , ومن زوايا مختلفة , لتتضح بذلك كل الأمور المختبئة داخل سطور روايته, ليس ذلك من وجهة نظر الأديب الشخصية فحسب, وإنما أيضا بوضع الأديب نفسه مكان الآخرين المتصلين بالحدث , وهنا وبكل تأكيد لن تكون هي محاولة التدقيق والتفسير لوجهة نظر الأديب وحده فقط , بل ستكون هي محاولة التفهم لأفكار الآخرين التي ربما تكون مختلفة تماماً ومغايرة لوجهة نظرة , وأيضا سيكون بذلك قد استطاع الإحساس بصدق نبضهم ودبيبهم وحركتهم في الحياة, وبشكل معقول وواقعي ومتزن, ستكون هي رؤية الأديب الجديدة بعيون متعددة ومختلفة .

لذلك، فرواية (زهافار) أجدها ليست هي تلك الرواية النادرة في البوح للحدث , أو الرؤية المتعددة التي تعرف كيف تستدعي أهمية عرض أحداثها, واستعراض وقائع الأحداث المختلفة فيها من أوجه عدة , الأمر الذي من خلاله سيمتلك الأديب القدرة على التلاعب في أفكار القارئ وتحفيزه على إيجاد الحقائق من بين ركام الزيف المحاط بالحقيقة .. إنها رواية عادية, تدور أحداثها لحكاية يمكن أن تحدث مليون مرة, وبنفس الوتيرة على الصعيد الدرامي نفسه, وفي أماكن مختلفة , وبنفس النفخة والإيقاع , وحتى بنفس الأبطال , والرسم لصور أشخاصها الذين تعرفنا عليهم , وتوقعنا فعلهم ودورهم .. إنني أعتقد أن الرواية الناضجة, دائما ما تعمد إلى تفتيت النص , وعرض الأحداث بطرق متنوعة, وتهدف من خلال ذلك لتقديم الواقع بحركتيه وغموضه, ليس كحكاية, بل موضوع جديد يثير الفضول لدينا, ويحفزنا للقيام بعملية المشاركة في التغيير والبحث عن وسائل جديدة لخلق العالم بشكل أفضل وأجمل , وهذا ما يسمى بتقنية المصغرات في الرواية , الأمر الذي تفتقده رواية (زهافار) بشكل مؤكد وتعجز عن إيجاد ذلك الترابط الوثيق الذي يوجد بين الكتابة عموماً والفنون الأخرى, كالرسم مثلا، الذي لاشك أن الراوية تشترك معه بالنقل المباشر للتصوير البصري للحدث والقائم على تفاصيل الشيء , ورسم الشكل وإظهار ملامحه بالوصف واللون , وإبراز الصورة الذهنية المتناسقة لدى القارئ , ونقله إلى مستوى الحدث المطلوب والمهم.. مؤكد أن الرواية تسعى بشكل مستمر ومتطور إلى الاستفادة القصوى من تقنيات الفنون الأخرى, والفن التشكيلي على وجه الخصوص في عملية السرد والبناء الدرامي الذي تنتمي غالبية مفرداته إلى خصوصية الرواية, وتشترك فيه مع الرسم أو الفن التشكيلي بشكل كبير وملحوظ , وتحرص عليه الرواية وتعتمده في تطورها, وارتقائها ووجودها حاضرة بين مختلف الفنون والإبداعات الإنسانية .

إن رواية (زهافار) قد اعتمدت على الحوار المكثف والمتبادل بين شخوصها بشكل مباشر وأساس في نقل الحدث إلى القارئ , الأمر الذي جعلها تبدو وكأنها موضوع سيناريو لفيلم سينمائي أكثر من رواية تصنع وتضع أحداثها المنقولة بأسلوب السرد والوصف والملاحظة الأمر الذي يساعد القارئ على تصوره للمناخ والأجواء حول الحدث , ويقرب إليه الصورة المرئية المتخيلة عن طريق الكتاب . كما أنني آخد على الكاتب في بعض صفحات (62 -63- 87) استخدامه الكلمات العبرية , التي لا شك أن القارئ يجهلها تماماً ويعجز عن فهم معناها ومعرفته بما تحمله من تعابير, وأصبحت تشكل عبئا عليه وكلاماً مبهماً في سياق النص الواضح (كلمات غير عربية) عملت على تشويه الانسياب اللغوي لهرمونية الحوار وموسيقى الألفاظ ومخارج الكلمات. إن الأدب المتميز والمغاير , هو لغة وتلك اللغة هي منظومة لمعانِ جديدة تتجه نحو تفجير المعاني السائدة والمعتادة في التداول لكلمات بسيطة هي مدلولات للأفكار والرغبات .. إنها المعنى الذي تنشأ عن الرواية أو الأدب بشكل عام , وهو المعنى المباشر الذي يستخدم في السرد أو القص , لكننا هنا نبحث عن مكان خاص في رواية (زهافار) , في لغة الرواية. مكان جديد, ومفهوم ما فوق المعنى التلقائي والمباشر في البنية الروائية , كالحلم , واللاوعي .. إنه التحرر من رقابة العقل الصارمة المفروضة على الواقع.. وإذا كنا نعتقد أن الكتابة هي فصل ينطلق من الواقع بشطريه , اليقظة والحلم , الوعي واللاوعي , فإن الحلم واللاوعي هما جزء مهم من الواقع لكنهما بالطبع ليسا أساسه, لكنهما ربما يكونان هما أيضا شريكان في عملية التغيير للواقع ومحاولة تحسينه , وهو الأمر الذي أهمله الكاتب في روايته, وحرمنا من التحليق في آفاق الحلم , وفضاء اللاوعي في محاولة للتحرر من سطوة الواقع المفروض بكل قسوته وحقيقته المادية , لذلك فانعدام مساحة اللاوعي في الرواية كان كفيلاً أن يلغي معنى أن يوجد الاحتمال , أو الإحساس بالرجاء من الحلم الطموح واستلهام المخيلة في محاولة إيجاد الصلة الخفية للارتباط مع الواقع ومحاكاته , وليس بالطبع رفضه بشكل قاطع أو التمرد عليه بشكل سلبي وهروبي .. إن الحلم بالتغيير للواقع نحو الأفضل, لا شك أنه هو الاستبصار للعقل والوجدان معا في تصور المستقبل الساطع للإنسان.. إنه الأمل بالغد المشرق .. وإذا كان الواقع الذي نعيشه مؤلماً, ومزيفاً للكثير من الحقائق فيه , فإذن هو واقع مشوه لا يعكس رغباتنا وتطلعاتنا, لذلك فإنه بكل تأكيد يكون من وظيفة الأدب المهمة هي البحث والتفتيش عن الجمال وسط القبح في ذلك الواقع, البحث عن الإنسان السوي والمتزن الذي ربما يدفعه ذلك الواقع البائس نحو الوحشية والانفلات, وحتى الهروب من الوقوف والمواجهة والتصدي لكل أصناف القهر التي لاشك تصبغ سمة ذلك الواقع بالمرارة والعذاب , الذي يرفضه الإنسان , ويسعى للبحث عن وسائل التغيير المناسبة الممكنة وحتى اللا ممكنة في محاولة الخلاص والرفض للقوانين والنظم التي تسهم في تشكيله .. وإذا كان الكلام هو لسان للواقع , فإن الكتابة هي سبل التجلي الحلم .. إنها وسيلة للبحث عن إمكانية إيجاد مساحة مسموحة للحلم بتغيير الواقع, والطموح في كشف لا معقولية في غموض قواعده وقوانينه المخبئة خلف ستار المنطق، أيضا تلك المسلمات والبديهيات التي تشكله, وتشكل معها كل الأسماء والمسميات التي ترتبط بعلاقة وثيقة باللغة السائدة لتعريفه وبيان سلطته من خلال مفهوم الكلمات المستخدمة والمتعارف عليها في لغة الكلام وتأثيرها اليومي على الإنسان ... لكن الكتابة شيء آخر , أمر مختلف , إنها موقف , شيء نمارس فيه حريتنا في الهذيان والبوح, والتعبير عن انفعالاتنا مهما كانت وبدت, متسلحين بأدوات الحلم والخيال اللامحدود لينشأ عالمنا الجديد في أذهاننا , ويمتد في فضاء من الحرية اللا محدودة في التعبير عن إرادة التغيير , وتحطيم السائد ومحاولة الولوج إلى الحداثة .

وفي الأخير فإن رواية (زهافار) تبقى محاولة متواضعة تضاف للأدب اليمني، تبحث عن قراءة متبصرة ونقد حقيقي لتقييمها تقييماً حقيقياً .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى