الإغاثة بالبقّار..!

> علي سالم اليزيدي:

> يحتفظ الزمن في ذاكرته بما مرت به حضرموت منذ عقود بعيدة، يوم ضربت عاصفة المجاعة المنطقة، وتجول الجوع والخوف والتشرد، وبكل ما في ذلك من قسوة أوجعت الناس وأربكت أحوالهم، يومئد وقفت حضرموت رغم ما بها من وهن.

ووقف الحكام والدولة الحضرمية والأثرياء والعلماء والميسورون داخل حضرموت وقرب حدودها، بل وعبر البحار، واجه الجميع النكبة بكل ما وضعت ونشرت من تحديات، وفي زمن لم تمتلك المنطقة العلاقات الواسعة بمفهوم الحاضر، وفي زمن لم تكن به هذه المنظمات الإنسانية والأخوية بما يقاس باليوم، بل وفي زمن تسوده أوضاع التشتت للوطن وتباعده وتمزقه وتأخره، وما بعد النتائج التي تكشفت من أثر الحرب العالمية الثانية وكل ذلك الحصار المضروب على البحار والقفار وجها لوجه، يومئد كانت المواجهة ولا مفر!.

وتلفتت حضرموت حولها بحثا عن ذاتها وتساءلت أين هم أبناؤها؟. وقال الزمن المعاصر فحكى: جاءت النجدة والإغاثة، إذ وقف آل بن كوير طيبو الذكر إلى جانب شعب حضرموت، وكيف وهم من أهل الثراء والكرم والجود بالمهجر، وسيروا الإغاثة العاجلة ليس أياما وأسابيع، بل أشهرا ولفترة تكفي لدحر النكبة، فقد قامت الطائرات الخفيفة برمي وتوزيع الحبوب (الطعام) على مناطق وادي حضرموت والبادية، وأطعم آل بن كوير أهلهم، ولم يتخل الأبناء عن الأهل، وحفر التاريخ ما يفعل الأخيار.

ومثلما هب هؤلاء أقدم آل باعوم الكرام على فتح مخازن أموالهم، وأقاموا المطابخ في المكلا والديس، وهو ما أطلق عليه (حوش باعوم)، ولم يقف آل الكاف وعلى رأسهم أبوبكر بن شيخ الكاف- وهو الذي دعم مسألة السلام الحضرمي، ودعوة الإصلاحات والتكافل- متفرجين، وقدموا ما يكفي، ووضعوا برنامجا زمنيا للقضاء على شبح المجاعة وما بعدها، وتنادى آل باحكيم وبوسبعة وباعبيد وباشراحيل وشماخ وآل مسلم ورجال العلم والأئمة وكل من في جاوة وجدة من آل بقشان وبن محفوظ وبن لادن وباحمدان وتجار الرياض والحجاز، وأيضا تجار أسمرة من آل باخشب وبامشموس وآل بارحيم وبامخرمة الحضرمي، في ذلك اليوم كان الصوت والعمل واليد والقلب واحدا موحدا، ونجحت المساعي، وتعافت حضرموت.. ثم ما هو القادم بعدئذ؟.

أزاحت حضرموت الأزمة، واتجهت إلى النهضة، ولم تخرج وحدها من النكبة، بل أخذت معها مشروعا نهضويا متمدنا، ولم يأكل الحضارم (العَيْد) وغيرهم عينه على الفيد، وكانوا يومها في وحدتهم وحدهم والأعين ترنو لإقامة النهضة لمواجهة السقوط والتحدي في مواكبة التطلع العربي الإسلامي الناهض في مصر والجزائر وسوريا وكل الجزيرة العربية، ولم تنكسر عزيمة الرجال والأفكار من حكام حضرموت وعلمائها الأوفياء الذين سلكوا طريق الهدى والنور والسلام الاجتماعي خدمة للعرب والمسلمين، وتمهيدا للدولة اليمنية الحديثة والعربية منذ الاستقلال 1967 إلى 1990 انتظاما للمشروع والحلم الذي أسست حضرموت نفسها لريادته، وإن تأجل زمنه، لكنه سينصف ولو بعد حين (فالسماء ترجى حين تحتجب!).

وها هم كل هؤلاء الأشقاء حولنا، وكأنما هو إعادة لمشهد جرى عليه تعديل فني مطلوب بحكم التطور المواكب، يومئذ وقف الملك المغفور له بإذن الله عبدالعزيز بن سعود في إيواء الحضارم الفارين من بطش الزمن، وأعاد الأحرار إلى بلادهم، وأكرمهم أثناء وبعد النكبة، وعمد تجار البحرين والكويت ومسقط والبصرة إلى مد المعونات والبضاعة إلى تجار حضرموت للعام الذي بعد وإلى حين ميسرة.

إنها قصة الزمن، وكيف تمددت حضرموت ليس تحت حراب القوة والظلم والاستبداد، وإنما بفضل حكامها من السلاطين الورعين والعلماء التقاة ورجال الفقه، وذلكم الحضرمي البسيط حامل الرسالة الدينية والثقافية والسلام التي لم يعرفها أحد بعد في المنطقة التي أكلتها الحروب والظلام والمرض، وتحققت رسالة ظلت تحيا وبآثارها الرائعة.

فلماذا الحديث عن قضايا لاتخدم الإنسانية في الميدان، النكبة كبيرة والمشاهد مؤثرة ليس في التلفزيون الرسمي، إنما في وادي حضرموت والمكلا والبادية، والأوضاع لن تسوى بالتصريحات، المكان يتسع للجميع، للإغاثة الإسلامية والعربية واليمنية والحضرمية والصليب الأحمر والهلال الأحمر ورجال الإحسان، ونعجب من ضعف الإغاثة والتباطؤ الحكومي الرسمي، لم تعد السلطات حتى تثق برجالها، ولولا الجهود الشعبية والمكثفة النزيهة لفجعنا أكثر وأكثر، وهذه الحقيقة وهي رسالة لابد منها.

قالوا «اللبن على المساهن بطأ»، وهناك ما يكفي كل المتضررين وفقراء النكبة كما قالت ناشطة نسوية في شبام: «الخير سيكفي الجميع حتى لصوص الفيد!!». وقال لي ناشط في العمل الخيري والاجتماعي من شبام: «هذه اللحظة نفتقد الوجيه محفوظ شماخ- رحمه الله- وكذ حيوية السياسي عبدالقادر بن هلال». وقال لي نازحون من ميفع حجر يبيعون (البقّار)* في شوارع المكلا: «إننا نغيث أنفسنا وأطفالنا ببيع البقّار»، وقلت في نفسي لعل الإغاثة للمتضررين بالبقار أرحم من خازن المال المكار!!.. والله أعلم.

* البقار: بلح البحر الموسمي وهو لذيذ، ويبيعه الفقراء ليأكلوا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى