قصة قصيرة .. العودة إلى السقيفة

> «الأيام» عبدالله قيسان:

> كان اللقاء قصيرا، تحت السقيفة، لم يمكنهما من إكمال حديث الشوق والمحبة، فبينما ريح البحر تعزف أصواتا غريبة، لاصطدامها بالقش الملقى على السقيفة، وضوء القمر يغمر الشاطئ، تفاجأ العاشقان الصغيران، وهما جالسان بين القوارب المعطوبة والشباك المهملة، بأن شخصا يقترب منهما، فحاولا الانسحاب تدريجيا إلى الجهة الأخرى، حتى دخلا بين البيوت القريبة من الشاطئ. برغم أن الوقت مبكر ولم يحن موعد السهارى ليشغلوا الشاطئ ونواحي السقيفة بالسمر وصوت أم كلثوم والضحك والتسكع إلى آخر الليل .. هكذا تعودا اللقاء مبكرين، حتى إذا سمعنا أذان العشاء، تعود (علياء) بسرعة إلى البيت متعذرة بالمذاكرة عند زميلاتها .

كانت الحافلة التي تنقلهما إلى المدرسة الثانوية صباحا لا تساعد على التقائمها لكثرة الطلاب والزحمة وخوفهما من الحساد والوشاة والقيل والقال، فانتشار الخبر قد يفسد العلاقة وهي في بدايتها .. لكن اللهفة وحرارة الشوق وصدق المشاعر تجعلهما يختلسان النظر حتى في الحافلة، كلما أتيحت لهما الفرصة، فكانت كل نظرة منها ممزوجة بابتسامة حلوة وسريعة فيسري تيار العواطف المشتعلة فتزداد دقات قلبه ويفيض دفئا وحنانا وهو يجلس في الجهة المقابلة .. تتوقف الحافلة ويتسابق الطلبة والطالبات للنزول .. تحاول (علياء) أن تنشغل بلملمة كتبها وحاجاتها حتى إذا شعرت بخلو الحافلة واقترابه منها همست :

- في الاستراحة تعال الصف.

- طيب .. طيب .. (قالها بابتسامة وفرح)

أيام جميلة يملؤها الحب والمغامرات والإخلاص والتضحية، وليالٍ مرت بسرعة كأنها حلم : الشاطئ ونسمات البحر، والقمر والطيور، وأصوات الدان والدحيف، وروائح البخور والفل تصل إلى الشاطئ مع هدوء ونسيم الليل، والناس ينتشرون على امتداد الشاطئ وحوالي السقيفة، التي يهجرها الصيادون في المساء بعد قضاء النهار في تضميد القوارب وترقيع الشباك، والبلدة تطل على البحر العربي حتى يكاد الموج أن يلامسها.

تململ (هادي) في مقعده عندما سمع المضيفة تعلن عن الاستعداد للهبوط بمطار عدن الدولي .. توقف شريط الماضي، وفك ربطة العنق استعدادا لتقبل حرارة الجو، وبدأ يستعد للنزول.. في صالات المطار رأى الناس كالأقزام، وهم يتحركون هنا وهناك، أغلبهم بثياب قديمة بيضاء ولحى ،والعمائم أشكال وألوان، والبعض بأحزمة وجنابي .. فشعر كأن المكان غريب أو أن الطائرة أخطأت وجهتها أو هبطت اضطراريا هنا .. وهو يقترب من الجوازات رأى شخصا يلوّح بيده ويبتسم فأخذ بالاقتراب فإذا عمه (علي) يحتضنه بلهفة وشوق، حتى لامست لحيته الظهر، وهو يربت على كتفه :

(ماشاء الله .. ماشاء الله)

فداهمته نوبة من الضحك وهو يرى عمه في هيئة غريبة وجديدة عليه، فأخذ يداعبه ويسأله عن أيام زمان : (كيف المسرح ..وفرقة الرقص)

ضحك الجميع عاليا ثم أخذ يساعده على حمل الحقائب إلى السيارة، فانطلقا إلى الريف، حيث كان يتوقع الاستقبال بالزغاريد وحشد من الرجال والنساء والأطفال .. كلهم سيحتشدون أمام منزلهم .. ترى هل ستكون (علياء) ضمنهم؟ كان يسائل نفسه وكيف سيلقاها بعد غياب سنين طويلة، أو لعلها قد صارت ربة بيت وتنكرت للماضي ولقاءات السقيفة.

مرت خواطر كثيرة عليه أثناء الطريق الذي امتد لساعتين، حتى أشرف على البلدة فرأى المآذن تتنافس في الطول والزخرف، وسمع تراتيل أذان العصر المختلفة.. عند باب منزلهم لم يسمع الزغاريد كما توقع، ولم يرَ نساء سوى ازدحام الأطفال على (الفولة) التي بادرت أخته الكبرى برشها على رأسه، تاركة الأطفال يتسابقون عليها .. في الناحية الأخرى كانت أمه تتحرك بصعوبة نحوه، والدموع تسكب من عينيها، فاحتضنها وهي تبكي من الفرح، كم كانت تتمنى هذا اليوم لتراه .

كان المنزل مليئا بالزوار الذين قدموا للسلام عليه من أقاربه وزملائه، ثم قامت الأسرة بواجب الضيافة، فتناول الجميع وجبة العشاء.. وبعد الاسترخاء وشرب الشاي طلب (هادي) من أحد زملائه مرافقته للفسحة على الشاطئ، وفي الخارج كان السكون يخيم على الشاطئ، فلا شباب يتجولون ولا شيوخ مارون، حتى أصوات الصيادين لم تسمع، فالتفت إلى زميله :

- مالك سالم .. الساحل تغير ؟!

- كيف ؟

- لا صوت ولا بال ولا دان ..

- أنت شفت حاجة !

- ياااااه !

البلدة تغرق في صمت مخيف، تبعث على الوحشة والكآبة .. الحركة منعدمة كأنه مر عليها طوفان .. عرجا على السقيفة، فإذا هي حيث كانت سوى استبدال الأعمدة، والقوارب تغيرت من خشبية إلى بلاستيكية .. كان في السقيفة مجموعة من الشباب يتحاورون .. يبسملون عند بدء أحاديثهم، ويحوقلون إذا اختلفوا، ويلوحون بالسبحات .. وقف (هادي) يتأملهم ويستمع لأحاديثهم دون أن يشترك، كان زميله يراقب الجميع بأدب .. فأشعل (هادي) سيجارة، وعاد إلى المنزل وهو مصمم على كسب فرصة العودة إلى أوكرانيا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى