عبدالرحمن السقاف في (مدينة بلا بيوت).. قلق الأسئلة.. ويقين الشعر

> «الايام» محمد عمر بحاح:

> أصدر الشاعر عبدالرحمن السقاق مؤخرا ديوانه الجديد (مدينة بلا بيوت) من إصدارات الهيئة العامة للكتاب- صنعاء، مكرسا مسيرته الشعرية الممتدة لأكثرمن أربعة عقود، ومرسخا أقدامه كشاعر عميق الرؤية قادر على إعادة تشكيل العالم عبر اللغة، وعلى الاشتغال الحثيث على الظاهرة الإبداعية ككل. في قصائد هذا الديوان يهتم السقاف بقضايا الإنسان والحياة، بالقدر ذاته الذي يعتني فيه بهاجس الإبداع والمقاربة الجمالية، كما يرسخ قدرة شعره على حمل الفكرة وتشخيص الرؤية.

اختار عبدالرحمن السقاف عنوانا لافتا ليطلقه على ديوانه، فالعنوان يحمل معه في الحقيقة إشكالية تدفع إلى السؤال حول نوع تلك المدينة.. فكيف تكون هناك مدينة ثم تكون في الحين نفسه (مدينة بلا بيوت)؟!.

ولعل الشاعر تعمد (إحداث) هذه الإشكالية، ليستدرج القارئ منذ البداية.. منذ العنوان إلى الأسئلة الكثيرة التي يثيرها في مجمل قصائد ديوانه، كمدخل وقاعدة للنقاش حول القضايا والأفكار التي تعبر عنها.

وبهذا المعنى، فإن الشاعر يضعنا منذ العنوان في مواجهة اشتباك يراه ضروريا مع أسئلته التي يستحث بها تفكير القارئ لديوانه، لا ليعقده، بل لكي يحفزه ويستدرجه إلى قصيدته، ليكتشف نفسه إزاء شعرية عالية تصب في بوتقة أسئلة تحمله على التفكير، والحوار، وتحسسه بأنه معني بالقصيدة، وبعوالمها الفكرية واللغوية، وبأدواتها وصياغاتها الفنية، وصورها بالقدر نفسه الذي يشعر فيه بأنه جزء لا يتجزأ من المواضيع التي يطرحها، والأجواء والفضاءات التي تدور فيها، فيحس بأنه ليس مجرد قارئ عابر، أو متلق على الهامش، بل شريك فاعل، يوسع أفق توقعاته، فلا يتوقع وهو يقرؤها- القصائد- أجوبة جاهزة، أو حلولاً مسبقة للقضايا والتعقيدات التي تتطرق لها، لأن الشاعر السقاف يريد الصعود بقارئه إلى درجة الشراكة في التفكير، وفي البحث عن مخارج وحلول حتى لا يسقط في وهم أنه سيجد حلولاً عند الشاعر، أو يتوقع حلولاً لمشاكله تأتي من الخارج.. وبالقدر نفسه الذي يستدرجه إلى التفكير والبحث عن حلول، فإن يحثه على العمل والفعل لتغيير واقعه المؤلم والبائس.

وهي اللحظة التي يصل بها الشاعر عبدالرحمن السقاف بقارئه إلى بلوغ الذروة لينجز هو الآخر خطابه الداخلي، ويبني موقفه من الواقع الذي جسده له الشاعر، فلايمكنه بعد ما قرأ ورأى وعاش أن يلزم الصمت ويركن إلى السلبية، أو يقبل بالتعايش مع البؤس والظلم والخراب.

يعري السقاف في قصائد ديوانه (مدينة بلا بيوت) سرقة الأحلام من البسطاء، وانهيار أماني الناس في الحرية والعدل والمساواة، وإشاعة الفقر والخوف والظلم.. وتحول المدن إلى التوحش، وانزواء سكانها إلى دائرة الأحزان والتسول، ونشوء واقع مؤلم وكسيف لا يستطيع فيه أحد تحقيق أمانيه في أي شيء، لا في الحب, ولا في العيش الكريم، ويعود فيها الناس من رحلة الحياة بالألم والجراح، فلا تؤدي بهم إلى أي مكان، بل إلى أفق سراب! في واقع مؤلم قبيح ومخيف كهذا، لا ينفع اجترار الألم، أو البكاء على الطلل، أو التدثر بالخوف، ولا يكفي الصراخ وحده تعبيراً عن سوء الحال والأوضاع، بل لابد من عملية تغيير قبل أن يعم الخراب ويبتلع كل شيء.

هذا هو الأفق أو الفضاء الذي تدور حوله معظم القصائد في ديوانه الجديد، ليس عبر إطلاق أسئلة القلق وحدها للتنبيه والتحذير من تردي الواقع إلى درجة لم يعد يحتمل السكوت، بل أن عبدالرحمن السقاف في قصائده تلك ينتج ما يمكن تسميته بشعر المشاركة.

وسواء أكانت قصائده تدور حول قضايا كبرى.. حول الوطن والأمة، أو تلامس تجارب ذاتية، أو يلامس المكان، أو عينها الإنسان، أو تدور حول نماذج محددد في الحياة، أو تقف مذهولة أمام رهبة الموت، فإن السقاف يبث قلقه، ويثير أسئلته في ثنايا قصائده، ولايعفي حتى الشعر والغناء منهما متسائلاً عن جدواهما في واقع مؤلم بائس، ليصل إلى اليقين الذي يبحث عنه ليحس بالأمان بأن لهما فائدة على الأقل.

يتابع السقاف في ديوانه هذا حساسيته الشعرية العالية التي ميزته منذ بداياته السبعينية في القرن الماضي.. فهو شاعر رقيق له أبدا روح قلقة، هاجسه البحث عن الجمال في كل ما يحيط به في الكون، ويثيره كل ما يشوه الحياة، وينال من الإنسان، ولا يسلم بظاهر الأشياء، بل يهمه النفاذ إلى جوهرها، والغوص في أعماقها، فيلتقط بهدوء منضبط الحقيقة ليبني موقفه، منطلقاً من إيمان عميق بحرية الإنسان، وبقيم العدل والخير، فلا يمكنه السكوت على الظلم أو الاعتداء على خيارات الناس، أو مصادرة أحلامهم، فلا يملك إلا الانحياز إليهم، والدفاع عن أمانيهم أمام كل ما يتهددها.. وبالقدر نفسه فهو معني بمآل بلاد وأمة بأكملها.

وبإمكان قارئ شعره، وقصائد ديوانه هذا أن يكتشف- دونما عناء كثير- إلى أي مدى هو حاس وشفاف وقلق، ومهموم، وموغل في قضايا الناس وهمومهم، ويقف إلى جانب خيارات البسطاء، والانتصار لهم ولقضاياهم.. لكنه في الوقت نفسه يدعوهم إلى التحرر من الخوف الذي أوقعهم في السلبية وعدم المبالاة بما يتعرضون له من ظلم، وإزاء واقعهم البائس والمزري.. ويحرضهم على اكتشاف ذواتهم، ورحابة الصراخ بالألم بدلاً من اجتراره، أو الركون إلى الواقع.. ليكسروا قيودهم، ويغيروا واقعهم إلى واقع جديد يستحقونه، ولطالما حلموا به قبل أن يُسرق منهم، وتوقعهم قوى القهر في جحيم الخراب.

وبإمكان قارئه أن يلاحظ بوضوح كيف تنهمر أسئلة القلق، أو قلق الأسئلة على مدى قصائد ديوانه المشار إليه. فهي تتواصل في أغلبها مرة الأخرى مهما كان الموضوع الذي تدور حوله القصيدة.. فتعقد الواقع، وتشعب القضايا، وطول أمد الهزائم، وانكسار الأحلام، وضياع الأماني على الصعيدين الذاتي والعام، وانسداد الأفق، وجفاف الينابيع، وشرور الأمنيات، وفقد (الترائب) لخصوبتها، وعجز الإنسان أمام لغز الموت، كل هذا وغيره يجعل من أسئلة الشاعر السقاف مسألة أساسية وحيوية تدخلنا إلى عالمه الشعري، وتدمجنا في تفاصيله، وتجعل منا شركاء- كما أراد- في الهموم، والأحزان، والحيرة، والقلق، والأسئلة.. وأيضاً تفتح شهيتنا على التفكير، والقدرة على رؤية الواقع، والأشياء كما يراها لنشاركه في إعادة تشكيلها على نحو جديد.

هي إذن ليست أسئلة الترف، أو أسئلة يطرحها عبدالرحمن السقاف للتعقيد، بقدر ماهي أسئلة تساعدنا على تفكيك تعقيدات الواقع حتى نغادر سلبيتنا المعهودة، وعدم مبالاتنا بحياة البؤس التي نتردى فيها، وتحثنا في الوقت ذاته على التأسيس لحضور فاعل نكون من خلاله قادرين على إحداث التغيير، لإبدال ذلك الواقع المؤلم الكئيب بواقع جديد أكثر بهجة وإنسانية حتى لا يطيح بنا الخراب!، أو نتأقلم مع الخراب...!

عبدالرحمن السقاف في (مدينة بلا بيوت) بقدر انشغاله بهمومنا وقضايانا.. قضايا الوطن والناس.. فإنه أيضاً يغوص بنا في همس روحه، وتجارب ذاته، وفكره وعواطفه، ويحولها إلى مجموعة من (الرباعيات) والـ (ومضات) الموجزة المتفردة في أسلوبها، وموسيقاها الخاصة التي تلامس أنبل ما في مشاعر الإنسان، عبر تفاصيل صغيرة تلخص رؤية كاملة في أقل الأبيات، فيشيد بها مشهدا كاملا غنيا، يعطي لشعره طعما جديدا يقترب من مشاعر الحياة اليومية والناس، مبتعدا به عن المألوف والعادي.. فهو يعلي من شأن قيمة الفن والإبداع، الطافح بالألم والحزن والمعاناة والعذاب، عبر تكثيف الفكرة والمعنى والصورة بأسلوبه الشعري الشفاف، كي يرضي روحه وتجربته وإبداعه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى