قصة قصيرة.. غـــــزة

> «الأيام» منصور نور :

> عاد أحمد بعد العصر في اليوم الثامن من الحرب المفروضة على قطاع غزة، وقد قرر البقاء في منزله بجانب أسرته وأمام شاشة القنوات الفضائية، بدأ بمتابعة التغطيات الإعلامية والصور المأساوية لملحمة الصمود والمقاومة بمدينة غزة، شعر بارتياح كبير لتلك المظاهرات الغاضبة التي تدين وتشجب العدوان والحرب المسعورة على غزة، والتي شهدتها معظم العواصم العربية والأوروبية.

كان أحمد قد استخدم غطرسته لإسكات الجميع وبقي في حالة استنفار لأعصابه المتوترة وكأنه ينتظر شيئاً ما قد يحدث من تطور متسارع في هذه الحرب غير العادلة، كل محاولات أفراد أسرته لمتابعة المسلسلات التركية ورغبة أولاده في مشاهدة مباراة كرة القدم للأندية الأوروبية باءت بالفشل.. وحدث ما كان يتوقعه أحمد، ولكن ليس بتلك الصورة البشعة.

وكانت الساعة الثامنة تقريباً من مساء ليلة السبت والقوات البرية للعدو الإسرائيلي الغاشم تتقدم بدباباتها وخلفها الجنود لاجتياح قطاع غزة، كان كل أفراد أسرته قد توحدت مشاعرهم المتضامنة مع أهالي غزة، وفي تلك الأثناء سمع الجميع أصوات زخات من الرصاص لأسلحة آلية تمزق الهدوء، وكانت أصوات الرصاص قوية جداً وكأنها قريبة من منزل أحمد، ولكنه شز ببصره محدقاً إلى شاشة التلفاز مستغرباً أيكون هذا الصخب من هذ الجهاز العتيق الذي يعمل باللطم والركل لتثبيت الصورة وألوانها.. عادت أصوات الرصاص ملعلعة من جديد مع عودة أصغر أبنائه الذي لا يكتم في جوفه أنباء ما يحدث في الحافة أو الشارع العام، وفاجأ الجميع بإخبارهم (ضرب رصاص في شارع يافا و..و..).

أسكتته أمه آمرة إياه بغسل رجليه وكفيه ووجهه من العرق، وأحمد أثاره اسم (يافا) ولم يكن منتبهاً لحديث ابنه وقال في نفسه (الاجتياح والحرب على غزة وما بال المقاومة في يافا تطلق الرصاص وعلى من؟ وهل جنَّ أهل يافا) وجدت زوجته الفرصة سانحة لتطلق العنان لحنجرتها وتشرح لزوجها أحمد ما يحصل في يافا:

-الرصاصات المنطلقة في شارع يافا خلف حافة (اليهود) وهي بمناسبة حفلة عرس، ليس إلا!

ابتسم أحمد مستهزئاً مما يحدث وقد ذكرته زخات الرصاص الممطرة، بلحظات وداع المقاومة الفلسطينية وخروجها من بيروت عام 1982م، وبمواكب تشييع جنازات الشهداء الأبطال في الأرض المحتلة.. وبيوم وداع الأمة شيخ الشهداء أحمد ياسين وبطل الصمود الشهيد الرنتيسي وقائمة طويلة من الشهداء.

رنين الهاتف أوقف أحمد من استرسال شريط المقاومة ليرد على المكالمة الواردة من صديقه عبدالله الذي كان قلقاً ويسأل عن سر إطلاق الرصاص بتلك الكثافة المرعبة والتي أطلقت من جهة قريبة من منزل أحمد الذي قال لصديقه:

- اطمئن ياصديقي، هذه الرصاصات من بنادق أبطال المقاومة المجاهدين في شارع يافا إنهم يستعرضون قوة بنادقهم لصد الاجتياح الإسرائيلي على غزة.. عن بعد!

قاطعه عبدالله: - ولكن نحن بعيدون عن غزة بآلاف الكيلومترات!

رد عليه أحمد قائلاً:

- والقريبون منها أكثر بعداً منّا.. ورصاصات البنادق في أفراح أعراسنا تزرع الرعب في الجندي الإسرائيلي من مسير شهر وثلاثة أيام وسبع ساعات!

أنهى عبدالله المكالمة، وهو لا يعلم أية حالة عاشها الأطفال والنساء والشيوخ في شارع يافا، وبعد توقف إطلاق النار نحو الدقيقة الثلاثين الأولى من اليوم التاسع للحرب على غزة وصمت بنادق شارع يافا، استمر العدو الإسرائيلي بالتقديم لاجتياح غزة وضربها بالمروحيات الأباتشي والزوارق الحربية، وتواصلت التصريحات والبيانات للأسرة الدولية منددة بالعدوان ومطالبة بوقف الاجتياح بعد توقف إطلاق النار في شارع يافا.

اتجه أحمد إلى مخدعه للنوم، شاكراً الله أن ماحدث من صخب وغضب وعرس وفرح في شارع يافا، لم يمتد إلى شوارع القدس ونابلس وحيفا وإلى مخيمات صبرا وشاتيلا لتقلق سكينة مدينته الآمنة، ولتستقبل غارات جديدة من أسراب الذباب وتجتاح شوارعها عربيات الباعة المتجولين فيها.

استيقظت زوجته من نومها على صوت زوجها أحمد الذي كان نائماً وهو يصيح (ياأبطال غزة وياشباب شارع يافا.. فجروا الدبابات الإسرائيلية ولا تدعوها تتقدم نحوكم.. بالروح بالدم نفديك ياغزة..) وأعقب هذا الهتاف شخير طويل من أحمد، وتصفيق حار كان في الواقع لطمات تلقاها كتفا أحمد العاريان في محاولة من زوجته ليكف عن شخيره المزعج وإخراجه من كابوسه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى