بين مسرور وباجهل وباغشم.. شعر الحدث في لحج

> «الأيام» سند حسين شهاب:

> سرعة البديهية أحد العناصر الأساسية التي تشكل هوية الشاعر، وهذا العنصر يمثل قيمة أساسية عند أي شاعر ويجعله المعبر الأول عن الحدث إبان وقوعه، ولا شك أن الشاعر الذي يملك هذا الحس البديهي يكون متفوقاً على غيره من الشعراء الذين يفتقرون إليه.

ويتجلى هذا الحس عند بعض الشعراء من خلال التقاطهم الحدث في لحظته ومن ثم صياغته شعراً في الحال لتأتي القصيدة بعد ذلك نتاجاً لهذه اللحظة الملتقطة لتقييم قدرات هذا الشاعر عن غيره.

في الأدب اللحجي هناك الكثير من الشعراء الذين يمتلكون هذا الحس البديهي وقد أظهر لنا التراث الشعبي في لحج الكثير من القصائد الشعرية التي تصور أحداثاً كثيرة لمضامين متعددة وقد جاءت هذه القصائد خلاصة لهذه الأحداث بعد أن التقطها هؤلاء الشعراء سواء من خلال معايشتهم الحدث نفسه، أو من خلال استماعهم لهذا الحدث عبر آخرين.

سنستعرض في هذا الموضوع عدداً من هذه الأحداث، وكيف تم صياغتها بعد ذلك في صورة قصائد شعرية معبرة عن هذه الأحداث.

1)مسرور والسمك الردئ:

يمثل الشاعر الشعبي الكبير مسرور مبروك أحد أهم الأصوات الشعرية في لحج في التاريخ المعاصر، وقد برزت القيمة الحقيقية لهذا الشاعر من خلال أعماله الأدبية الذي كان الشعر أهم مضامينها، ومن خلال تتبع الأعمال الشعرية لهذا الشاعر لوحظ أنه كان يتمتع بحس بديهي رهيف، استطاع من خلاله التقاط عدد كبير من الأحداث والوقائع التي عاصرها على امتداد مسيرته الشعرية التي امتدت لأكثر من ستة عقود، والعجيب أن شعر مسرور لم يقتصر على مسار معين في الحياة بل شمل مجالات مختلفة وقد تمكن من التقاط أحداث كثيرة ومن ثم صياغتها شعراً، غير أن الجانب الاجتماعي كان هو الأبرز في مسيرة هذا الشاعر لاسيما وأن مسرور كان قريباً من الناس ومن ثم كان هو الأقرب إلى قضاياهم ومسار حياتهم ومن ثم التقاط أهم أحداث ووقائع المجتمع والتعبير عنها شعراً وها نحن نبرز أحد هذه الأحداث التي شهدتها لحج في نهاية السبعينيات تقريباً وكيف تحولت هذه الواقعة إلى شعر بعد أن عاشه مسرور إبان لحظته.

في نهاية سبعينيات القرن الفارط عز السمك الجيد كثيراً على أبناء لحج ولم يوجد في الأسواق حينها إلا أسماك رديئة كان أهل لحج يتأففون منها ولايستطيعون أن يستسيغوها، وقد ظهرت أسماء ومسميات كثيرة لهذه الأسماك الرديئة.

في أحد هذه الأيام كان الشاعر مسرور مبروك يتجول في سوق السمك بلحج لشراء حاجته من السمك غير أنه لم يجد سوى نوع من هذه الأسماك يسمى (البطابط) وقد لاحظ مسرور بحدسه الشعري أن الناس ينفرون من هذا السوق بسبب وجود هذه الأسماك التي لا توجد لها أي قيمة غذائية، إضافة إلى مساوئ أخرى ويتجهون إلى سوق الخضار لشراء الخضروات علها تكون بديلاً عن هذا السمك المرفوض، ولأن هذا الحدث مرتبط بحياة الناس وواقعهم اليومي كان الحس البديهي لمسرور يعبر عن هذه الحال، نقتطف منها:

سوق فارغ ولا فيه شيء غير البطابط

صيد ما يعجب الناس

قشرته مثل قشرة هام زارط

ريحته تشرخ الراس

ليت أنه مثل ذاك الصيد القطاقط

حبيرا وهداس

كل من شافه خرج غاضب وساخط

شل خضره وبسباس

2) باجهل يصور واقعة أخرى:

الشاعر عبدالله باجهل من شعراء لحج المعروفين الذين نظموا قصائد شعرية في مضامين مختلفة ولعل ارتباط هذا الشاعر بواقعه الاجتماعي ساعده كثيراً في التقاط وقائع وأحداث كثيرة وإسقاطها شعراً، كان أهمها هذه الواقعة التي حولها باجهل إلى قصيدة شعرية أعجب بها الكثيرون ولايزال يتردد مطلعها على ألسنتهم كما أن آخرين قد نظموا قصائد عارضوه فيها.

في النصف الأول من ثمانينيات القرن الفارط كان أحد المقربين من فنان معروف بلحج يحكي لهذا الفنان في منتداه أنه استطاع أن يحصل على توجيه من أحد مسؤولي المحافظة بصرف كمية من أكياس البر لهذا المقرب ولهذا الفنان، واستطرد هذا الشخص المقرب المعروف باسم «حنبكة» أنه قد أعطى التوجيه لشخص قريب منه يقال له بن عثمان لكي يستخرج أكياس البر والتصرف ببيعها والإتيان بقيمتها النقدية إلى منتدى الفنان المعروف.

في هذا الوقت ذاته الذي كان فيه حنبكة يشرح هذه الحكاية لهذا الفنان كان الشاعر عبدالله باجهل وشاعر آخر بجانبه يستمعان لهذه القصة بعد أن عادا للتو من استراحة بستان الحسيني وقد شاهدا بأم أعينهما بن عثمان هذا وهو يبعثر مبالغ مالية كانت في حوزته بعد أن فقد تركيزه نتيجة تعاطيه مشروبات روحية.

وبينما كان حنبكة يترقب لحظة قدوم بن عثمان وتسليم المبالغ التي كانت في حوزته ليتقاسمها مع الفنان المعروف كان الشاعر عبدالله باجهل يصيغ الواقعة شعراً:

وين البر ياحنبكة

برك في الحسيني أدركه

بن عثمان حمل وباع

شل صـهره معه للدفاع

ما همه الخبر ذي يشاع

متعود على الصعلكة

في البستان دق الحنش

من حبه سكر وانتعش

بالبيره ترشرش ورش

وانـفق مـال ما يـملكه

رزق الحرية ما يدوم

جاها وقت لازم تصوم

مادام الغرابي يحوم

لا هـاج الـجمـل بركه

3) باغشم يصور واقعة ذاتية:

في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي وفي أحد أيامه كان اتحاد الأدباء بلحج قد حدد إقامة أمسية مفتوحة مع السيد عبدالله علي الجفري، وفي اليوم المحدد لذلك توجه السيد الجفري إلى مقر الاتحاد الكائن في قصر السلطان عبدالكريم فضل (دار الحجر) وبالقرب من القصر صادف الجفري أن الشاعر عبدالقادر باغشم كان متوجهاً هو الآخر إلى مقر الاتحاد, وعندما هما بالدخول إلى القصر عبر البوابة الرئيسة كان اثنان من الجنود المتمركزين في البوابة الرئيسة يمنعان الشاعر باغشم من الدخول بحجة أن لديهما تعليمات بذلك من قيادة الاتحاد دون أن يظهرا أي أسباب لذلك, حينها حاول الأستاد عبدالله علي الجفري أن يقنع الجنديين بدخول باغشم معه إلا أنهما رفضا فقال لهما الجفري:«إن باغشم هو ضيفي فإما أن تسمحوا لنا بالدخول مع بعض وإلا فإننا سوف نعود من حيث أتينا» فأصر الجنديان على موقفهما فقام السيد الجفري باحتضان باغشم وقال له:«تعال معي» وذهبا معاً إلى دار الرابطة بلحج لإكمال المقيل، وبينما كان السيد عبدالله علي الجفري مشدوهاً بمضغ القات والحديث مع الآخرين كان الشاعرعبدالقادر باغشم يسطر هذه الواقعة في الأبيات التالية:

شيخ المشايخ* قال لفته بالنظر

ياحضرة العشاق بجعلكم شهود

قد جيث متعني ولا عندي خبر

حتى وصلت الباب ردوني الجنود

لكن أبو هاشم** حسمها بالبصر

نبع الأصالة أخـمدت نار الوقود

ياتاج حوطة لحج يادار الحجر

الفكر والتفكير أصبح في القيود

والزيف والتهريج جاثم له مقر

أهل التـوجه غالطوا كـل الوفود

مظهر حضاري قد عبث به حرف جر

وصبحه مأوى الثعالب والقرود

* شيخ المشايخ : الشاعر عبدالقادر باعشم.

** أبوهاشم: المقصود به السيد عبدالله علي الجفري.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى