أنطونـي بيس .. الرجل الأسطـورة .. حط رحاله في عدن موظفا مدينا وتركها بعد أن أسس امبراطورية تجارية يشار لها بالبنان

> «الأيام» د.علـي محمـد سعيـد أكحلي:

>
المقر الرئيس لشركة البيس على طريق العيدروس - كريتر
المقر الرئيس لشركة البيس على طريق العيدروس - كريتر
المسيو أنطوني ِبيس Monsieur Antonin Besse كان لا يعرف طعماً للهزيمة، أسس في مدينة عدن إمبراطورية تجارية إمتدت من أوروبا إلى أمريكا والحبشة وأصبح من أكبر رجال الأعمال الناجحين في مدينة عدن.

كان السيد أنطوني يحب الخصوصية ويعمل بالمبدأ القائل «كلما عرف الناس عنك القليل قلت مشاكلك»!. حتى أقرب المقربين إليه كانوا لا يعرفون بالضبط مكان ولادته، كما أن هناك الكثير من الغموض الذي اكتنف مسيرة حياته. ولتوثيق حياة شخص مثل السيد انتوني سيتطلب ذلك كتابة عدة كتب بسبب نشاطاته المتعددة، بل ويمكن عمل فيلم سينمائي وثائقي عن حياة هذا الرجل سيكون له بلا شك حضور قوي بين الأفلام الوثائقية العالمية.

ولد أنطوني في شهر يونيو من عام 1877م في مدينة كاركاسون Carcassonne (فرنسا) وانتقلت عائلته بعد وفاة والده إلى مدينة مونتيبليه Montpellier مع ستة من إخوانه وكان عمره آنذاك 7 سنوات. لم يكن انتوني موفقاً في دراسته ويبدو أن إخفاقه في الدراسة كان الدافع الرئيس ليقرر الانخراط الطوعي للخدمة في الجيش وعمره 18 سنة، ولكن تخلى الجيش عن خدمته وهو في عمر 22 سنة .

انطوني بيس وزوجته هيلدا
انطوني بيس وزوجته هيلدا
قرر السيد أنطوني البحث عن عمل وتوفق في الحصول على وظيفة لدى شركة «باردي وشركاه» Bardey - Co. التي كانت تعمل في مدينة عدن كشركة مصدرة للبن اليمني الذي كان يجلب من شمال البلاد، وتحصل على عقد عمل مدته 3 سنوات. وهذه هي نفس الشركة التي عمل لديها الشاعر أرثر ريمبو Arthur Rimbaud لمدة إحدى عشر عاماً في فترة سابقة (×)، حيث وافق على راتب أقل بقليل مما كان يتقاضاه ريمبو حتى يتحصل على الوظيفة. وقد اضطر أنطوني إلى استلاف مبلغ من المال من صهره (زوج أخته) لشراء ثياب خفيفة تليق بطقس استوائي وتذكرة سفر إلى عدن، لأنه كان مفلساً. استقل أنطوني سفينة من ميناء مارسيليا Marseilles كانت متجهة إلى مدينة عدن وكان ذلك في أبريل من عام 1899م.

عَملَ السيد أنطوني بكل جدّ وإخلاص في شركة باردي، وكان يستيقظ الساعة 4.30 صباحاً في أغلب الأحيان ويعَمَل بشكل متواصل حتى 6 مساءً. تعلم كل شيء كان يمكن تعلمه حول البن اليمني Coffee وتجارته، وأصبحَ محترفاً في هذا المجال أيما احتراف. لَمْ ينسجم أنطوني بالقدر الكافي مع إدارة شركة باردي، وبعد انتهاء عقدِه مع الشركة، سافر إلى مدينة الحديدة وأَسّسَ لنفسه عملاً خاصاً به برأسمال اقترضه من صهره أيضاً وكان ذلك في بداية عام 1902. في وقت لاحق من تلك السَنَة قفل راجعاً إلى فرنسا، حيث أثمرت مفاوضاته مع أحد المصارف الفرنسية بالحصول على قرض كبير والذي مَكّنَه من تأسيس عمله في عدن، وأن يَدْفعُ لصهره كل المبالغ التي استدانها، وأحضر معه أخيه أميل Emile إلى عدن لمُسَاعَدَته على إدارة العمل الذي أسسه في الحديدة.

مع حلول عام 1904 وجد أنطوني نفسه يُكافحَ من أجل سداد المستحقات المالية للمصرف. واستطاع صهره بمساعدة أحد المحامين على تسوية ديونه لدى المصرف بدفع أقساط مخفّضةِ ولكن قبل استحقاقها. عندما عاد إلى فرنسا بداية 1907م قابلَ بالصدفة على أحد القطارات الآنسة مارجريت هورتينس، واستمر الطرفان بالتواصل بواسطة الرسائل لمدة عام، تزوجا بعدها في أبريل 1908م. كانت مارجريت تنتمي إلى أسرة ارستقراطية ثرية وقد جلبت حظاً وافراً للسيد أنتوني، حيث قامت بالاستثمار في تجارته وأصبحت شريكة فيها، كما كانت بارعةِ في اقتناء الكتب لأنها كانت قارئة نهمةَ. زادت مبيعات البن في شركة أنطوني سبعة أضعاف في السَنَةِ الأولى من بدء العمل ، وبعد اندلاعِ الحرب العالمية الأولى وصلت مبيعاتها إلى ألفي ضعف.

انتهى زواجه من مارجريت بالطلاق، إلاّ أنه التقى السيدة فلورنس هيلدا كروثر في عام 1922 وأصبحت زوجته الثانية وتوأم روحه حتى مماته، حيث خلف منها ثلاثة أولاد هم: بيترPeter/توني Tony/ جويJoe/ وابنتين هما آريان Ariane ومنى Mona. والابن الثاني (توني) هو الذي استخلفه الأب قبل مماته لتسيير أعماله التجارية (بعد عام 1951م) ، حيث برع هذا الابن في تطوير أعمال أبيه. و(توني بس) الابن هو الشخص الذي يتذكره الرعيل الثاني من أبناء عدن ويخلطون أحياناً بينه وبين أبيه بسبب تشابه نطق اسميهما.

نادي الاتحاد بالتواهي في بداية القرن الماض
نادي الاتحاد بالتواهي في بداية القرن الماض
شيد السيد أنطوني المقر الرئيس لشركته في منطقة القطيع طريق العيدروس - مدينة كريتر(××) الذي استمر كذلك حتى وفاته. وكان الطابق الأرضي للمبنى عبارة عن مخازن مختلفة وفي الطابق الثاني مكاتب الموظفين وغرف راحة لهم، وعلى سطح الطابق الثالث شيد السيد انطوني شقة فخمة بكافة مستلزماتها مع مكتب مؤثث بأحدث طراز، كما كان هناك فناء واسع يحيط بهذا المبنى. في وقت لاحق، قام السيد أنطوني ببناء فيللا Villa مميزة وفريدة من نوعها فوق جبل معاشق في مدينة كريتر، وقد توالى على سكن هذه الفيللا بعد الاستقلال بعض قادة العهد الجديد الذي حكم جنوب اليمن.

شيد البريطانيون ناد ترفيهي سمى بـ (نادي الاتحادَ) Union Club في منطقة التواهي، وكَانَ عبارة عن مؤسسةً بريطانيةً من الطراز التقليدي المهيب، حيث اقتصرت عضويته على طبقة معينة من الناس مثل المسؤولين الحكوميين والضبّاط العسكريين مع السماح لبعض تجار عدن المشهورين آنذاك بالاشتراك فيه، وقد منع البريطانيون السيد أنطوني من الاشتراك في عضوية هذا النادي بسبب غير معروف رسمياً، مما أدى بالأخير إلى مقته لهذا النادي (والإدارة البريطانية) طوال حياته.

شهد عام 1934م تدشين أول مشاريع السيد انطوني وهو مصنع للصابون في مدينة كريتر، إلاّ أنه قام بنقله في العام التالي إلى منطقة المعلا دكة، حيث قام بتحديث المصنع بآلات إضافية. وفي عام 1937م شيد مصنع آخر بجانب مصنع الصابون لإنتاج زيت جوز الهند ثم مصنع ثالث لإنتاج الجليسرين. كان السيد أنطوني نشيطاً في صناعة السفن الشراعية وكان أول من وضع ماكينة ديزل على السفن الشراعية في عام 1936م في مدينة عدن.

عندما سافر أنطوني إلى المكلا على إحدى السفن الشراعية التابعة للسيد قهوجي، كانت رحلته بطيئة وغير مريحة مما حدى به بتأسيس شركة طيران برأسمال قدره خمسة آلاف جنيه استرليني وسميت بـ «الخطوط الجوية العربية - المحدودة» Arabian Airways، وكان ذلك في عام 1936م حيث قام بشراء طائرتين صغيرتين سعة كل منهما أربعة مقاعد.

طائرة (مونوسبار) 4 مقاعد تابعة للخطوط الجوية العربية شركة البيس
طائرة (مونوسبار) 4 مقاعد تابعة للخطوط الجوية العربية شركة البيس
وذلك لربط مدينة عدن بمنطقة حضرموت، إلا أن إحدى الطائرتين تحطمت بعد عام من تشغيلها واستبدلت بأخرى، ثم تحطمت الطائرة الثانية في مطار (تريم) بحضرموت عام 1938م ، وبسبب الخسائر التي تكبدها قرر السيد انتوني إغلاق هذه الشركة في العام التالي 1939م.

كانت شركته تسمى (أ. بس وشركاه (عدن) المحدودة (A. Besse - Co. (Aden) Ltd وقد تحصلت على توكيلات عديدة لشركات تأمين بريطانية عالمية وتم تعيينها وكيلاً معتمداً لعدد من شركات الطيران والملاحة البحرية العالمية للقيام بحجوزاتِ السفرِ الجوي والبحري وكانت شركة الحلال للملاحة Halal Shipping Company وهي إحدى الشركات التابعة له Associate company قد تحصلت على توكيلات عديدة لخطوطِ الشحن البحرية المعروفة عالمياً. كما تمكن من الحصول على وكالة شركة (شل) Shell الهولندية التي أدرت عليه الكثير من الأرباح خصوصاً بعد حصوله منها على عقد بعيد المدى.

هامش:-

(×) هو الشاعر الفرنسي المعروف في عدن باإسم (رامبو) والذي عاش فيها 11 عاماً (1880م - 1891م) .

(××) يقع المبنى قريباً من مقر فرع البنك اليمني المركزي حالياً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى