عدن عبق التاريخ.. جنة الدنيا .. وكريتر قلبها النابض

> «الأيام» الخضر عبدالله محمد:

>
ياطائرة طيري على بندر عدن ** زاد الهوى زاد النوى زاد الشجن ..مدينة عدن عبق التاريخ.. صرخات الصيادين، قهقهات البحارة.. الفل.. المشموم.. الكاذي.. التوابل.. البهارات.. اللبان.. العطور.. الزائر لعدن يذوب في الروائح الزكية.

كريتر قلب عدن النابض خزينة للآثار والتاريخ

عدن-كريتر - قلب عدن النابض.. هي ثلاثية الحرارة، والماء، والصخور.. فالجبال تحاصر المدينة من كل الجهات بشكل حذوة الحصان.. وتنفرج من ناحية الشرق، حيث يستلقي البحر بهدوء رحابة.. والحرارة مناخها ويعتدل في هذه الأيام أي في فصل الشتاء... هذه سماتها العربية القاسية، ولكن حين يأتيها زائر تجد نفسك تكتشف بأنها مدينة خلابة.. فهي تتسلل تحت جلدك وتترك وشماً في قلبك وتلتصق بك وتمدك شعوراً بالراحة والعذوبة.

وتجد روحك أسيرة هواها ففي كل مرة وأنت ترتاد طرقاتها وشوارعها وأزقتها تهمس لك المدينة سراً من أسرارها الخالدة.. فعدن كريتر هي فوهة بركان قديم يبلغ ارتفاعه 335م وهي أقدم موقع شهد الاستقرار البشري والعمراني والحضاري.

ويرجع المؤرخون تاريخ بزوغها في الوجود إلى نحو ثلاثة آلاف سنة.. ويقال أنه ورد ذكرها في الصحف السماوية كما ورد لها إشارات في القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية الشريفة، عدن - كريتر قال عنها الفرنسيون في القرن السابع عشر الميلادي بأنها أجمل مدن الجزيرة العربية.. وهي مازالت جميلة وإن سقطت عن قائمة الشهرة والضجيج الإعلامي.

وهي تنام كغانية كسولة في أحضان الجبال وتعطي وجهها للبحر والشمس وضفائرها للريح.. وحين تأتيها من جهة الغرب فأنت تتسلل تلال العقبة وتترك تحتك مدينة المعلا وبحرها وتقترب من باب العقبة أو باب عدن الذي اعتبر بأنه أعجوبة معمارية وأحد الأبواب التاريخية.

وقد شهد توسعاً مستمراً خلال الحقب الماضية مع ازدياد حركة المواصلات ليغدو شرياناً رئيسياً يربط المدينة ببقية مدن عدن المحيطة بها.. وحين تتوغل في عمق الباب تدخل في ممر جبلي, زحف العمران بمحاذاته..ينفرج تدريجياً أمامك برحابة وترى الجبال البركانية الكالحة الشامخة عبر العصور تحكي أسطورة الإنسان ودفاعه المستميت للحفاظ على براءة المدينة ووجهها الطفولي.

وأنت تهبط طريق العقبة وبهدوء إلى عمق المدينة ينتابك إحساس عذب وشعور بأنك تفتح ذراعيك لتجمع المدينة بين يديك أو أن المدينة قادمة إليك لتلقي بوجهها على كتفيك.. وفي طريقك إليها تجد منطقة الخساف التي تغطي جزءاً كبيراً من شارع الملكة أروى الطويل.

وهو شارع نظيف ومرصوف حديثاً.. شديد الحركة فالمواصلات تتدفق عبره من وإلى المدن المحيطة بها وسترى وأنت تنزلق في الشارع صفاً طويلاً من المباني وهي مبانٍ قديمة من أيام الاحتلال البريطاني فقد شيدت هذه المساكن الحضرية لعمال المستعمر الأجانب حينئذاك وقد تم تأميمها مع سائر مساكن عدن الأخرى من قبل حكومة الحزب الاشتراكي السابقة وتوزيعها على الأهالي.

وفي الجهة المقابلة لهذه المباني سور منخفض لمعسكر 20 يونيو وينتهي بنا شارع الملكة أروى إلى شارع البنوك وخلفه شارع أبان وهو ينسب إلى مسجد أبان الذي كان يحتل موقعاً في هذا الشارع والتسمية تعود إلى باني هذا المسجد وهو أبان بن عثمان بن عفان في بداية القرن الثاني الهجري ويقال بأن الإمام أحمد بن حنبل قد زاره ليتلقى العلم من إبراهيم الحكم الشهير بالعدني.. وقد شهد هذا المسجد توسعات وترميمات خلال السنوات الماضية دون المساس بتراثه التاريخي ولكن في السنوات القليلة الماضية تم دك هذا المسجد التاريخي وبناء آخر بالمعايير العصرية.. وعبر طريق أبان الممتد كشريط طويل تتفرع أسواق بخطوط متوازية أفقية كانت في الماضي تعد أسواقاً ضاجة صاخبة تمور بالحركة والنشاط.

واليوم حين تجتاز هذ الأسواق يحاصرك عبق التاريخ وتتراشق في أذنيك أصداء صرخات الصيادين وقهقهات البحارة وصفارات السفن القادمة إلى ميناء عدن وهي تحمل إليها بضائع الشرق الآسيوي من التوابل والبهارات والأقمشة، ومن المدن الإفريقية العاج واللبان والعطور.. وما زالت هذه الأسواق تتنفس على الإيقاع اليومي ومحلاتها حبلى بالبضائع مثل الأدوات المنزلية والأقمشة ومواد البناء والكهرباء والعطور ومحلات أخرى خدمية.

تخرج من هذه الأسواق إلى سوق الطويل وهو شريط طويل يربط جولة الميدان بجولة السوق - سوق عدن المركزي - ويزدحم هذا السوق بالمحلات والمطاعم وحين تسير فيه تلاحقك روائح الأطعمة وأصوات الباعة المفرشين على الرصيف والأغاني القادمة من محلات الاستديوهات وأبواق السيارات التي تشق طريقها في الزحمة.. كما تغزوك رائحة الفل والمشموم والكاذي، فهناك الباعة يشكلون صفاً تلتف حولهم النسوة كالنحل، والرجل والمرأة في عدن عاشقان يذوبان بالروائح الزكية.

كما أن المرأة عطارة ماهرة فهي تطبخ البخور والعطور لغرض الاستهلاك اليومي أو البيع.. وهذه الروائح الطيبة تحاصرك دوماً في عدن.. وحين تقف في جولة السوق المركزي يكون أمامك اتجاهات.. اتجاه يأخذك إلى الطويلة، حيث تجتاز حارات متوازية بيوتها صغيرة ضيقة.. وتصل إلى شارع الطويلة الذي يشتهر بصهاريجها التاريخية.. ويعود بناء هذه الصهاريج إلى القرن الأول الميلادي وهي من أبرز معالم عدن التاريخية تضم خزانات منحوتة من الصخر يبلغ عددها 18 صهريجاً ترتبط ببعضها بقنوات طويلة وتتسع لخزن نحو 30 مليون جالون من مياه الأمطار التي تتدفق إليها من الجبال المحيطة وخلف هذه الصهاريج هناك ثمانية سدود قديمة تتوزع بين السلاسل الجبلية وتقوم بعملية جمع مياه الأمطار وتنظيم سرعته. وإذا أخذت اتجاهاً آخر من جولة السوق المركزي التي تشهد أبنية حديثة ستجد نفسك في سوق الزعفران وهو سوق قديم ويعد قلب المدينة وتكتظ محلاته بالبهارات والتبغ والأقمشة وسوق الذهب.

وإذا توغلنا في السير وخلفنا السوق سندخل في حارات شعبية تقودنا إلى شعب العيدروس بمنازله الصغيرة وشوارعه الضيقة وستأتيك صرخات الأطفال المرحة وركضهم الجنوني الذي يستمر حتى ساعات من الليل بعد أن تم إدخال الإنارة ورصف الشوارع في كل حواريه، ويتميز شعب العيدروس بمسجد العيدروس الذي ينسب إلى الإمام أبي بكر بن عبدالله العيدروس الذي جاء إلى عدن من حضرموت في القرن الخامس عشر الميلادي ويتميز المسجد بحسن تصميمه وجمال ألوانه.

إذا تركنا الشعب واتجهنا صوب الشرق، حيث تقف قلعة صيرة تحكي للزمن أسطورتها.. ستقف في وسط الطريق، حيث ملعب الحبيشي وتقابل منارة عدن التاريخية التي يعود تاريخ بنائها إلى أكثر من 1200عام وهي بقايا جامع قديم قد تهدم والمنارة شكلها مخروطي مكونة من ستة طوابق ويبلغ ارتفاعها 21م ولها سلم حلزوني.. وحين نترك المنارة ونتجه صوب القلعة، فنحن نسمع صوت البحر ولا نراه ونحس به ولا تعانقه عيوننا فالأسوار الأسمنتية زحفت على الشاطئ الجميل والأبنية الخدمية أغلقته في وجه عشاقه.

وهذا ماحدث لكل سواحل عدن الذهبية الساحرة.. والغصة تأخذنا ونحن نتحدث عن هذا الجمال المحاصر بالحجارة والأسمنت، ولكن قلعة صيرة صامدة خالدة بعيدة عن العبث تروي قصتها وهي تتكئ على جبل يبلغ ارتفاعه 430 قدماً من سطح البحر ويعود تاريخ بنائها إلى حقب قبل الإسلام واستخدمت كموقع دفاعي متقدم في وجه الغزاة..نعم إنها عدن غانية في أحضان شمسان وجهها للبحر وضفائرها للريح.. واختتم هذه الأسطر بقول الشاعر:

عدن عدن ياليت عدن مسير يوم

شاسير به ليلة ما شرقد النوم

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى