حمى التيفوئيد .. مابين قصور التشخيص وقلة الوقاية

> «الأيام» د. صالح الدوبحي:

> حمى التيفوئيد مرض عرفته البشرية منذ قديم الزمان، وتعتقد مجموعة من الباحثين أن التيفوئيد وليس الطاعون هو الوباء الذي اجتاح (أثينا) في الفترة مابين 426-430 قبل الميلاد فاهلك ثلث سكانها بما فيهم قائدهم (بريسليس).

وقد تمكنت الشعوب المتقدمة من دحر هذا الوباء بفضل التقدم العلمي واهتمامها بالصحة العامة وتوفير الرعاية الصحية لمواطنيها غير أن التيفوئيد بقي يمثل مشكلة صحية كبيرة في كثير من البلدان المتخلفة وخاصة داخل المجتمعات الفقيرة، حيث ينتشر هذا المرض المستوطن مسجلا مابين 13 إلى 16 مليون حالة سنويا يتوفى منهم أكثر من نصف مليون.

فما هي حقيقة هذا الوباء المتخفي ؟

و التيفوئيد مرض معد مهدد للحياة وهو مرض مستوطن تسببه ميكروبات تسمى (السالمونيلا) Salmonella) typhi S. typhi ( نسبة إلى أول من اكتشفها (سالمون) وهذه الميكروبات عند دخولها جسم الإنسان عن طريق الفم تتعرض لعصارات المعدة التي في كثير من الأحيان تقضي عليها، وإذا لم تتمكن من ذلك فإنها ما أن تصل إلى الأمعاء الدقيقة سرعان ما تخترق الأغشية المخاطية المبطنة لجدران الأمعاء وتدخل مجرى الدم عبر الشعيرات الدموية ومع أن كرويات الدم البيضاء تقوم بالتهامها لكنها لا تستطيع القضاء عليها لمقدرة هذه الميكروبات على تغيير شكلها بحيث لا تقوى الكريات البيضاء على سحقها وقتلها، بل على العكس فهي توفر لها الوسيلة السريعة للوصول إلى الجهاز اللمفاوي ( جهاز تصريف المواد الضارة في الجسم) الذي يساعدها بدوره في الوصول إلى أعضاء كثيرة في الجسم مثل الكبد، المرارة ، الكلى ، الطحال وكذا نخاع العظام وهناك تعيش فترة الحضانة التي تتراوح مابين 1 إلى 2 أسبوع ( المدى 3-60 يوما) تتكاثر فيها ثم بعدها تعود مرة أخرى إلى الأمعاء، حيث تهاجمها وتحدث تدمير وموت لخلايا الامتصاص في أجزاء عدة من الأمعاء مسببة عدة مضاعفات خطيرة مثل النزيف الداخلي والتهاب الأحشاء والتواء الأمعاء، وإذا لم يتوفر العلاج الصحيح والمبكر فإن معدل الوفاة قد يصل إلى 30%.

مصادر العدوى وطرق انتشار المرض

حمى التيفوئيد لا تصيب إلا البشر ولذلك فإن العدوى تكون بين إنسان وإنسان إما مباشرة بالملامسة وهي قليلة، أو غير مباشرة عبر تلوث الماء والأكل بمخلفات آدمية تحتوي على ميكروبات السالمونيلا من أشخاص مصابين أو حاملين لها وبواسطة الذباب وعبر المشيمة أثناء الحمل.

حاملين ميكروبات مرض التيفوئيدTyphoid Carriers ) ( يقدرون بـ 5% إلى 10% من الأشخاص الذين سبق إصابتهم بهذا المرض ونجو منه) لكن كميات من بكتريا السالمونيلا تبقى في حويصلاتهم الصفراوية المرارة لمدة طويلة من الزمن وتظل تتكاثر بشكل مستمر ثم تنتقل إلى الأمعاء أثناء الهضم، حيث تغادر مع البراز إلى خارج الجسم وكثير من هولاء الحاملين ليس لديهم أي أعراض كما أنهم لا يدركون الخطر الذي يمثلونه على غيرهم، وهذه الشريحة هي أهم مصادر العدوى، حيث يمكنهم أن يتسببوا في نقل العدوى للآخرين لسنوات عديدة ويكون الخطر أكبر خاصة عند ما يعملون في مجال تحضير وإعداد المواد الغذائية سواء في المطاعم أو المشارب أو حتى صناعة الأغذية مثل صناعة الألبان والأغذية المثلجة. أما أول حالة لشخص حامل لميكروبات السالمونيلا المسببة لحمى التيفوئيد قد اكتشفت عام 1907م وكانت امرأة أمريكية تدعى (ماري مالن) Mallon HYPERLINK "http://en.wikipedia.org/wiki/Mary_Mallon" ?\?o "Mary Mallon" Mary " التي كانت تعمل كطباخة في إحدى مطاعم نيويورك بعد أن تأكد من أنها هي التي تسببت بنقل المرض إلى عدة مئات من رواد ذلك المطعم حتى سميت تلك الواقعة باسمها" Typhoid Mary" وقد خيرتها السلطات الصحية بين تركها للعمل أو استئصال حويصلتها الصفراوية (مستودع الميكروبات عند الأشخاص الحاملين) فاختارت ترك العمل غير أنها عادت للعمل كطباخة في مكان آخر تحت اسم مستعار فتسببت في موجة أخرى لهذا الوباء، فاضطرت السلطات الصحية إلى احتجازها ووضعها في الحجر الصحي حيث عاشت هناك 26 عاما هي بقية أيام حياتها.

أعراض مرض حمى التيفوئيد وطرق تشخيصه

أعراض التيفوئيد كثيرة ومتنوعة وتتباين من مريض إلى آخر وأحيانا تكون مشابهة لالتهابات الجهاز الهضمي الحادة أو التهاب القصب الهوائية وحتى الملاريا.وأساسا تتسم أعراض حمى التيفوئيد بارتفاع متواصل لدرجة الحرارة(تقريبا طوال فترة المرض) تتراوح بين 39-40 درجة مئوية والصورة الكلاسيكيه التقليدية للمريض الذي لم يتحصل على العلاج يمكن تقسيمها إلى أربعة مراحل زمنية، مدة كل واحدة أسبوع تقريبا وتبدأ ظهور الأعراض بعد فترة الحضانة على النحو التالي :

1- الأسبوع الأول تكون الحرارة مرتفعة ببطء ( وتأخذ شكل درجات السلم في السجل) يصاحبها فقدان في الشهية ، توعك وضيق وجع الرأس وفي المفاصل وسعال جاف مع وجود طبقه على اللسان coated tongue ) مع انخفاض نبضات القلب و ألم في البطن كما يلاحظ في الفحص المخبري الروتيني أن هناك انخفاض في كرويات الدم البيضاء (leucopenia) (Eosinopenia) زيادة الكريات اللمفاوية في الدم Lymphocytosis) هذا بالإضافة إلى نزيف من الأنف ( رعاف ) لدى ثلث الحالات تقريباً كما أن فحص الدم الزراعي يكون ايجابي Blood Cultures وأيضا فحص محتويات نخاع العظام ( Bone marrow) في هذه المرحلة على عكس الفحص المصلي للتعرف على الأجسام المضادة للتيفوئيد أو ما يسمى بفحص الويدال( Test Widal ) يكون سلبي ( Negative ) لان الأجسام المضادة لا تتكون إلا بعد اليوم الثامن ولذلك فإن الاعتماد على فحص الويدال وحده في تشخيص التيفوئيد يعد تشخيصا قاصراً ( بحسب تعريف منظمة الصحة العالمية للحالة ) لأن فحص الويدال يمكن أن يكون ايجابيا لعدد من الجراثيم غير تلك المسببة للتيفوئيد ذات أعراض متقاربة، ولذلك فقد أدى استخدام هذا الفحص بشكل واسع وخاصة في مختبرات قليلة الإمكانيات ويفتقر عامليها الى الخبرة الفنية اللازمة إلى ظهور نتائج مبالغ فيها، بل ويمكن وصفها بالخيالية، و للأسف فقد أسهمت هذه الممارسات إلى ظهور معارف ومعلومات ناقصة خلقت وعيا مغلوطا ومشوها عن هذا الوباء القاتل، فكثير من الناس يعتقدون بأنهم فعلا قد أصيبوا التيفوئيد وأنهم يصابون به تقريبا سنويا وفي مواسم محدده ويجادلون في ذلك مستندين على نتائج الويدال . الفحص الزراعي للبراز يكون ايجابيا فقط في الأيام الأولى من هذا الأسبوع.

2- في الأسبوع الثاني درجة الحرارة تثبت عند 40 درجة يصاحبها فترات متبادلة من الهذيان تليها لحظات هدوء بشكل متكرر وهو ما أعطى المرض تسميته بـ(الحمى العصبية) ، هذا بالإضافة إلى تباطؤ في ضربات القلب وتغير في النبضات، واتخاذ المريض وضعية رقود تعرف بالاستلقاء المنهك "Prostrated '“مع ظهور طفح في أسفل الصدر والبطن تضخم في الجانب الأيمن من البطن في هذه الوقت قد يظهر الإسهال وخاصة عند الأطفال 6-8 مرات يوميا لون اخضر مع رائحة مميزه يمكن مقارنته بشربة البازلاء ( Pea-Soup ) ومع ذلك فإن حالات من الإمساك أيضا يمكن ملاحظتها خاصة عند البالغين مع الغثيان والطرش، كما أن الكبد والطحال تكونان متضخمتان وحساستان وهناك ارتفاع في بعض وظائف الكبد (Elevated Transaminasis ) وقد يحدث التهاب لعضلات القلب (myocarditis) أما فحص (الويدال) للأجسام المضادة فإنه يكون ايجابي بشكل قوي في هذا الأسبوع وفحص الدم الزراعي يبقى إيجابيا

3- في الأسبوع الثالث تظهر عدة مضاعفات خطيرة منها :

- نزيف داخلي في الأمعاء والذي يمكن أن يصبح على درجة عالية من الخطورة - حصول ثقوب في الأمعاء بشكل مفاجئ والذي يتسبب في تسرب محتويات الأمعاء إلى الأحشاء الداخلية ومن ثم التهابها - حدوث التواء في الأمعاء. وكل هذه المضاعفات على درجة كبيره من الخطورة غالبا ما تودي إلى الوفاة.

- خراج متنقل Metastasis Abscess تتسبب في التهاب الدماغ والتهاب المرارة والعظام

4- في الأسبوع الرابع إذا نجا المريض فان معظم الأعراض تتلاشى تدريجيا ولا تبقى إلا الحمى حتى نهاية أسبوع

هناك حالات قليلة تحدث فيها انتكاسة بعد أسبوعين وخاصة عند مستخدمي العلاج والذين لم يلتزموا بالتعليمات .

كما أن التيفوئيد يمكن أن يتسبب في إجهاض الحوامل حيث انتقال الميكروبات عبر المشيمة إلى الجنيين نادر ولكنة شديد ومذو مضاعفات خطرة على حياة الجنين.

أيضا يستخدم لفحص التيفوئيد زرع عينات تأخذ من البول عند المرضى والحاملين للميكروبات وبالنسبة للاختيارات الحديثة الخاصة بتحديد الأجسام المضادة هناك عدد كبير نذكر منها اختبار التيفيدوت " Typhidot Test " والفلوروسينس والاليساء وغيرها

علاج التيفوئيد كان ظهور المضادات الحيوية انتصارا كبيرا في محاربة التيفوئيد وفي البداية كان الكلورامفنيكول والستريبتومتسين ومن ثم الباكتريم والامبتسلين ولكن السالمونيلا استطاعت تكوين مناعة ضد الكثير من هذه الأدوية الفعالة ورخيصة الثمن ولذلك فانه عند علاج مريض التيفوئيد لابد من التأكد من صحة نتائج الفحص المخبري الزراعي والتي تحدد حساسية السالمونيلا للمضادات الحيوية ومطابقتها بالأعراض ألسريريه وغالبا علاج حمى التيفوئيد يتم على أيدي أطباء متمرسين وحاليا يعتبر سيبوفلوكساسين CIPOFLOXACIN وفلوروكوينولونيس FLUOROQUINOLONES سيفالوسبرين CEPHALOSPORIN علاج الخط الأول.

في حالات الحمل لابد من اخذ الحيطة في نوع المضادات الحيوية التي يمكن استخدامها لإنقاذ الأم والجنين معا. بالنسبة لعلاج للحاملين للميكروبات فإن استخدام المضادات الحيوية ليس له أثر كبير ولكن التدخل الجراحي واستئصال المرارة أفضل الحلول للتخلص من خطر الحاملين على المجتمع . HYPERLINK "http://en.wikipedia.org/wiki/Ciprofloxacin" "Ciprofloxacin"

التطعيم هو أفضل طريقة للوقاية وتوجد عدة أنواع من اللقاحات وحاليا يوجدا لقاح مشترك للتيفوئيد مع لقاح التهاب الكبد الفيروسي الوبائي (أ) و يعرف باسم فيفاكسيم "VIVAXIM "وإذا لم يتوفر اللقاح فإن الوقاية تعتمد على مقدار اهتمامك بالنظافة الشخصية وسلوكك العام وعليه لابد من أخذ الحيطة والحذر عند تناول أي مأكولات ومشروبات خارج المنزل خاصة ونحن في شهر رمضان الذي يتعود فيه الناس على شراء وتناول الكثير من الأطعمة التي تصنع في منازل أو في مطاعم شعبية ومقاصف وغيرها.

فتجنب شرب العصائر والألبان ومشتقاته كالحقين والزبادي وكل السوائل الباردة مثل الماء في الأكياس اوالدبب البلاستيكية وحتى المثلجة لان السالمونيلا ممكن أن تعيش في درجات برودة منخفضة وما لم تكن مضطرا جداً فلا تجازف بأكل ما هو بارد وغير مطبوخ و كل ما يؤكل نيئاً فكلها، ولا تنسى أن الكثير من الخضروات مثل الفجل ( البقل) الكراث والبصل الأخضر الطماطم السلطة الخضراء بالإضافة إلى معظم الفواكه تعد مصدراً مهما في نقل هذا المرض، حيث تتلوث عند ريها بمياه ملوثة. مواد يسهل تلويثها من قبل الأشخاص الذين يعدون هذه الأطعمة ليس فقط الحاملين التيفوئيد، بل بأمراض الإسهالات الأخرى وهي كثيرة وتقع مسؤولية مكافحة مصادر هذا الوباء على عاتق السلطات المحلية بمختلف مكوناتها الصحية والبلديات وإدارة المياه والصرف الصحي والتثقيف والإعلام الخ .. ويجب أن تكون هذه الجهات على مستوى عال من المسؤولية والقيام بمراقبة هذا المرض من حيث عدم السماح بتلوث مياه الشرب في كل مراحل دورتها ابتدأ من مصادرها -الآبار - ومرورا بالخزانات وشبكات النقل التي عادة ما تمر قريبا من شبكات الصرف الصحي التي عند حدوث الإعطاب تتبادل فيها الشبكتان محتوياتهن وأمام أنظار الجميع وهذه هي أحد الطرق الشائعة لانتقال التيفوئيد من الحاملين في المنازل إلى الآخرين عند تلوث مياه الشرب وفي المناطق الجبلية تجري محتويات المجاري ورشح البيارات بقوة الجاذبية نحو قاع الوديان في الأسفل حيث تخترق التربة لتصل مع مجرى الأمطار التي تغذي العديد من الآبار والتي غالبا ما تكون مصادر الشرب الوحيدة فتلوثها بشكل مستمر.

كما أن على صحة البيئة والبلديات متابعة الحالات الحاملة للميكروبات وعدم السماح لها بمزاولة مهن مرتبطة بالتغذية أو بيع المواد الغذائية وخاصة في المطاعم والمقاصف الدراسية والباعة المتجولين والمعسكرات، وأن تتحرى الدقة عند استخراج شهادات اللياقة الصحية وأن يتم إجراء الفحوصات المخبرية الدقيقة أثناء الخدمة بشكل روتيني وأن تعتبر هذه السلطات الكشف عن الحامل لهذه الميكروبات ليس استفزازاً للعاملين في المطاعم بل هو حماية للمواطنين ومنع لانتشار العدوى وحدوث الوباء، فحامل الميكروبات في كثيرا لا يعلم بما يحمله وهناك أيضا عدد من الميكروبات التي بحسب احدث دراسة دولية واسعة حول النظافة قام بها البنك الدولي وعدد من جامعات أوربا من بينها جامعة لندن للوقاية، حيث أكدت النتائج بان غسل اليدين بالماء الصابون (وهي معلومة قديمة ومعروفة ) يمكن لها أن تنقذ أرواح ما يقارب المليون و700 ألف نسمة سنويا تحدث بسبب الإصابة بأمراض معدية من بينها التيفوئيد .

لذا عزيزي تأكد وأنت على المائدة ألا تنسى بأن تذكر أطفالك لغسل أيديهم بالماء والصابون.

* اختصاصي علم الأوبئة

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى