> التكرار هو من أساليب الفصاحة في اللغة العربية لما ينطوي عليه من فوائد في الكلام، فإن كلام البلغاء لا يتكرر عبثًا وإنما لفوائد ومعان جديدة، ولما كان هذا حال كلام العرب، فكلام الله أولى بذلك فإنك لا ترى كلمة أو آية تكررت إلا لحكمة وفائدة، لقد أخذنا في الحلقة السابقة فائدة من فوائد التكرار في القرآن الكريم وهي (تقرير المعنى وتوكيده)، واليوم نأخذ الفائدة الثانية، وهي (إذا طال الكلام وخشي تناسي الأول أعيد ثانيًا تجديدًا لعهده)، كقوله تعالى: {أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}، وقوله تعالى في السورة نفسها {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِمَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وغيرها من الأمثلة كثير.
أما الفائدة الثالثة من فوائد التكرار في القرآن الكريم (إفادة معنى جديد فإن بعض الآيات تكررت في كتاب الله وفي كل مرة تكون متعلقة بما قبلها)، كقوله تعالى: {فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} كررت هذه الآية في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة.
ومن جماليات التكرار نأخذ نكرة مكررة ثلاث مرات في آية واحدة، قال تعالى في سورة الروم: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ".
يجب التذكير بالقاعدة البيانية: أن النكرة إذا تكررت فإنها في كل مرة تفيد معنى جديدًا.. (ضعف) نكرة تكرارها في الموضع نفسه يفيد أن الضعف الأول غير الثاني وغير الثالث.
المراد بالضعف الأول: النطفة (ضعيفة فهي ماء مهين) .. والضعف الثاني: الطفولة (لأنه بحاجة إلى رعاية أمه في مرحلة الرضاع وعناية خاصة حتى يجتاز مرحلة المراهقة ويصل البلوغ).. والضعف الثالث: الشيخوخة (لأنه يعود في مرحلة الشيخوخة ضعيفًا عاجزًا.. ضعيف الفكر .. ضعيف الحركة والسعي والنشاط).
واللطيف في الآية أن ( قوة ) وردت نكرة وكررت مرتين، إذًا القوة غير القوة.. القوة الأولى: قوة مدة الصبا (الصبي قوي مندفع كثير الحركة).. القوة الثانية: قوة الشباب (قوة الجسم والمشاعر والأحاسيس والهمة والعزيمة والانطلاق في الفكر والأحلام والطموح)، "ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا" القوة الأولى تقود إلى القوة الثانية.