تاريخ يمشي على الأرض

> سند حسين شهاب

> في مقيل جمعنا مع بعض الزملاء قبل ستة أشهر تقريبا في مناسبة توديع زميل لنا لمواصلة دراسته الأكاديمية لفت نظري أن أحد الحاضرين كان يتحدث في شؤون التاريخ، وعند متابعتي هذا الأخ لاحظت تجاوزاته في بعض الأحيان لحقائق تاريخية، وعندما أكمل حديثه تحدثت إليه محاولاً تصويب بعض الأخطاء التي وقع فيها، لكن هذا الشخص قدم نفسه لي بأنه متخصص في التاريخ، وأنه يتأهل حالياً للحصول على مساق أعلى من مساقه في نفس التخصص، وظل مصراً على تجاوزاته معتمداً على شهادته السابقة وتأهيله الحالي، فقلت له إن التاريخ ليس دراسة أو تخصصا أو تأهيلا، بل هو عشق في المقام الأول، فكم من أقطاب التاريخ ورجاله منذ بدء الخليقة حتى زمننا المعاصر لم يكونوا يملكون شهادات ولا تأهيلا، فتجاوب معي كثير من الحاضرين، ما أدى بالمذكور إلى الاقتناع بأنه لا يملك كل شيء، وأن عليه أن يتعلم كل يوم من الآخرين.
تذكرت هذا الأمر وأنا واقف أمام شخصية إعلامية تأريخية بكل المقاييس، لم تتعلم التاريخ أو تتأهل فيه، لكنها عاصرت وعايشت واستمعت واستوعبت كل ما يجري حولها منذُ بداية تكوينها حتى وصلت إلى سن متقدمة تقترب من السبعين، أطال الله في عمره.
هذه الشخصية تحتفظ حتى اللحظة بذاكرة تاريخية فولاذية مختزنة لمعلومات كثيرة وكبيرة في مضامين مختلفة من مسار الحياة عبر عصور عدة عاشها على اختلاف تقلباتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ.
محمد عبدالله مخشف، يقرأه كثير من الناس على أنه رجل إعلام في المقام الأول، وهو كذلك، لكن حسن طالع الرجل أنه لم يتخذ الإعلام بمفهومه التقليدي في نقل الخبر وتحريره أو كتابة المقال أو غيره، لكنهُ اتخذ من الإعلام وسيلة للبحث عن المعلومة وتثبيتها في ذاكرته حتى قبل أن ينتسب لمهنة الإعلام.
وربما هذه الميزة ساعدته كثيراً على تكوين تراكمات كثيرة من معلومات بدأها منذُ كان يافعاً ولا يزال يحتفظ بها حتى اللحظة.
كانت نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن المنصرم طفرة النهضة الثقافية في عدن في مضامين مختلفة، ولعل اشتغال الرجل في الإعلام منذُ البدء في صحف كبيرة ورائدة مثل “فتاة الجزيرة” و“الأيام” ساعده على الاقتراب كثيراً من عدد كبير من صناع هذه النهضة والاستماع إلى تجاربهم والاستفادة منهم، كما ساعده هذا الأمر على التغلغل في اعتمالات الحياة النهضوية آنذاك في الصحافة والآدب والفن والرياضة، والاقتراب من رجال الإبداع ومن هامات كبيرة كان لهم اليد الطولى في رسم ملامح هذه النهضة، وبالتالي فقد تكونت عند الرجل تراكمات كبيرة وحقائق كثيرة عن هذه الشخصيات ومسار حياتها وحكاياتها من واقع ارتباطه ومعاصرته لتلك الشخصيات.
لم يقتصر الرجل على هذا الأمر، لكن المخشف مسكون منذ تخلقه بمدينة عدن، وبالذات الشيخ عثمان وهي مسقط رأسه، ولذا فقد حباه الله باهتمامات مبكرة وذاكرة قوية جمع فيها معلومات كثيرة عن مدينة الشيخ عثمان حصراً وعدن إجمالا، وهذه المعلومات لا يمكننا حصرها في مجال معين، لكننا يمكن أن نجملها في كل شيء تقريبا ابتداءً من الحارات وأسمائها وتاريخ إنشائها ورجالها، مروراً بما كان يعتمل فيها من نشاط ثقافي واجتماعي واقتصادي مفصلا تفصيلا دقيقيا كل هذه الأمور، وانتهاءً بوصفها الحالي.
ليس هذا الأمر بالسهل ولا يمكن لذاكرة أن تستوعب كل هذا الأمر، لكن حظوظ الرجل، وقبل ذلك ميزته الربانية أن حباه الله بذاكرة واهتمام بالحياة إجمالا جعلت من المخشف تاريخا يمشي على الأرض من خلال سرده للوقائع واعتمالات كانت تحدث قبل خمسين عاما مثلاً، وتسمعها منه في الوقت الحالي وكأنها تترائ أمام ناظريك.
خاصية أخرى ميزت الأستاذ مخشف وهو أنه نأى بنفسه مبكرا عن التجاذبات السياسية سواء جانبها الفكري أو التنظيمي، وقد ساعد هذا الأمر كثيرا في حياته العملية التي أخذت مسارا مهنياً ساعد الأستاذ مخشف، بالإضافة إلى حسن طالعه وحبه للمعرفة والمغامرة على زيارة العديد من البلدان مرافقا الوفود السياسية أو مندوبا عن وزارة الإعلام أو الصحف لتغطية نشاطات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ورياضية كثيرة لا يمكن حصرها، الأمر الذي ساعد الأستاذ مخشف على تكوين صداقات ومعرفته بعدد كبير من رجال السياسة بشقيها الحاكم والمعارض من مختلف التوجهات، والأفكار، إضافة إلى الالتقاء برموز الفن والرياضة والصحافة والاقتصاد، وغيرها من الشرائح التي يحرص الأستاذ المخشف منذُ زمن بعيد حتى اللحظة على معرفتها، وتكوين صداقات معها، وللأستاذ مخشف في هذا المسار حكايات كثيرة وكبيرة، وأسرار عديدة لا يمكن إصدارها في هذه العجالة الانطباعية، ونسأل الله أن نتصدى لها مستقبلا في أي وعاء يراه الأستاذ مخشف أهلاً لذلك.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى