رجـــــــــــــال في ذاكـــــــــــرة التـــاريـــــــــــخ : الـشـيـخ جـنيـد سـعـيـد بـاوزيـر صاحـب مـلحـمـة عـصامـيـة مـتـمـيـزة

> نجيب محمد يابلي:

> غيل باوزير: تكتسب مدينة غيل باوزير أهميتها من عدة نواحي، فهي مدينة الجداول الجارية والأرض المعطاءة، وهي مدينة الإشعاع العلمي والثقافي منذ أن وطأتها قدما الشيخ عبد الرحيم بن عمر باوزير مؤسسها وباني أول مسجد فيها وكذا أول مدرسة.
كما تتميز بموقعها الاستراتيجي الذي جعلها همزة وصل بين الداخل والساحل، فهي قريبة من ميناء الشحر وقريبة من مطار الريان. وتتميز غيل باوزير كذلك بأنها مدينة القامات والهامات، وأسأل الله أن يعين أهل غيل باوزير على التفرغ لإعداد موسوعة بأعلام الغيل من مفكرين ومؤرخين وتربويين وأطباء ومهندسين وكتاب وصحفيين ورجال مال وأعمال، وحبذا لو كان بالتزامن مع مناطق أخرى مثل: الشحر وتريم وشبام.. ولحضرموت أن تفخر بإصدار عدد من الأنسايكلوبيديات: إنسايكلوبيديا شبام/ إنسايكلوبيديا تريم/ إنسايكلوبيديا غيل باوزير/ إنساكيلوبيديا الشحر وغيرها.
نجيب محمد يابلي
نجيب محمد يابلي

**الميلاد والنشأة:
الشيخ جنيد بن سعيد بن عمر بن عبدالله بن سعيد بن شيخ باوزير، من مواليد قرية مدودة (القريبة من مطار سيئون) بحضرموت في بواكر العقد الثالث من القرن العشرين، وكان وحيدًا لوالدته ابنة الشيخ عبدالله بن سعيد بن شيخ باوزير ووالدتها من آل باحميد في مدودة.
توفي والده الشيخ سعيد بن عمر باوزير في هشيمة من وادي جعيمة، مديرية شبام، وكان جنيد في العام الأول من عمره، وسبقه إلى الدنيا سبعة أخوة هم: صالح بن سعيد باوزير وعلي بن سعيد ومحمد بن سعيد ومحمد بن سعيد وعبدالله بن سعيد وأحمد بن سعيد وعمر بن سعيد (الشيخ باوزير - محطات ومواقف: السفير جعفر إسماعيل وآخرون).
عاش الشيخ جنيد لفترة وجيزة في كنف شقيقه الأكبر الشيخ صالح باوزير إلا أن والدته استعادته ليعيش في رعايتها، وتعذر عليها العودة إلى (مدودة) مع طفلها جنيد فعاشت ما بين تريس حصن العوانزة وشحوح وخاصة في منزل الشيخ صالح بن صالح بن عانوز والشيخ سالمين بن عانوز (والد الأخ جعفر بن عانوز) أطال الله عمره ومتعه بالصحة.
تلقى الطفل جنيد باوزير دروسه الأولى في القرآن الكريم ومبادئ الكتابة والقراءة ومبادئ الحساب بقواعده الأربع: الجمع والطرح والقسمة والضرب، وتتلمذ لفترة قصيرة على يد الشيخ عمر سالم باعباد في الغرفة وحمل له جنيد باوزير ذلك الجميل طوال حياته حتى وفاته في مارس 1996م.
**الشيخ جنيد باوزير يحمل عصا الترحال إلى عدن:
يقرر الشيخ جنيد باوزير السفر بحرا إلى عدن (ميناء السواعي بمعلا دكة) بعد أن مرت حضرموت بسنوات عجاف منها الحرب على ابن عبدات والقحط الذي عمها، وأقرضه أخوه الشيخ صالح باوزير مائة روبية مقابل رهن حصته من تركة والده وغادر عدن إلى زنجبار مع عدد من أقاربه، ولم يجد فرصة العمل التي تتناسب مع قدراته الذهنية والبدنية، واتسم له القدر وتلقى إشعارا بالعودة إلى عدن، حيث وصلته مكرمة مائة روبية من أخيه الشيخ علي بن سعيد باوزير من المهجر الآسيوي، ولم تسعه الدنيا وهو يعود إلى عدن لتسلم المكرمة.
**جنيد مع الشيخ سالمين باسنيد في أولى محطات عمله:
وصل الشاب جنيد باوزير إلى كريتر وهناك وجد فرصة عمل في بقالة صغيرة مع الرباكي في حافة الشريف بكريتر براتب زهيد شهريا ودوام على مدار اليوم، ولم تستمر فترة عمله إلا لبضعة أشهر، وجاء من يخبره أن الشيخ سالمين باسنيد، تاجر وعين من أعيان عدن (والد المحامي بدر، وصديق محمد علي باشراحيل) يبحث عن موظف يعمل معه في مركز من مراكز توزيع المواد الغذائية المخصصة لأفراد الشرطة والأمن العام بموجب عقد بينه وبين الإدارة العامة للأمن العام.
نجح الشاب جنيد في اختبار الحساب والقراءة وخاصة الأرقام والكتابة بالإنجليزية، وباشر عمله في مركز الشيخ عثمان (خلف مركز الشرطة) اعتبارًا من العام 1950م.
قرر الشاب جنيد باوزير شد الرحال إلى كينيا وتواصلت علاقته بالشيخ سالمين باسنيد، وبعد وفاته تواصلت علاقته بأولاده وبناته حتى وفاته، وكان دائم السؤال عن حالهم وفاء منه لذلك الشيخ الجليل الذي مكنه من تحويش مبلغ محترم من راتبه الشهري (60) روبية/ شلنًا، وكان راتبًا مجزيًا في تلك الظروف، ووفر الشاب جنيد مصاريف مشواره إلى كينيا.
**ليلة واحدة في مقديشو حفظ جميلها الشيخ جنيد:
اشترى الشاب جنيد باوزير بعض السلع ليعرضها للبيع في ممباسا، ومن مدينة التواهي انطلقت الباخرة (تريبو ليتانيا) تمخر عباب القرن الأفريقي بركابها ومنهم الشاب جنيد الذي نصحه المحبون بأن ينزل في منزل الوجيه الشيخ صالح بن نقيب، وأقام عنده ليلة واحدة في حي بلاجا بالعاصمة مقديشو، ومن هناك شد الرحال إلى ميناء ممباسا، وحفظ الوفي جنيد تلك الليلة في ذاكرته ليردها أضعافا مضاعفة، وتلك أيام نداولها بين الناس.
**إلى كينيا بداية صنع إلياذة الشيخ جنيد:
في العام 1952م يصل الشاب جنيد إلى ممباسا ليحط الرحال فيها وبقي هناك زهاء ستين عامًا، وكان وصوله ميسرًا جدًا واعتبرها الشيخ جنيد بداية البشارة، فقد كان ـ رحمه الله ـ باراً بوالدته وأرحامه ونقيا في تعامله التجاري، والنقاوة في العمل التجاري عملة نادرة.
أقام الشاب جنيد في بداية مشواره في محل ابن أخيه الشيخ أحمد بن عبدالله بن سعيد باوزير والشيخ عبد الرحمن بن عبدالله بن سعيد باوزير في منطقة مندوني وهي منطقة شعبية ترابية وطرقها غير معبدة وهي ضاحية من ضواحي مدينة ممباسا.
بدأ الشاب جنيد يصرف بضاعته التي حملها معه من عدن ويوظف عائدها في شراء بضائع أخرى وتحقق له تراكم مالي متواضع ليبدأ رحلة الألف ميل.
**الشاب جنيد باوزير يشتري دكان ابن مهري:
نشط الشاب المكافح جنيد باوزير في التجارة بشراء بضائع بتسهيلات مقدمة له مما ساعده على زيادة شحناته من البضائع من ممباسا إلى عدن وبعدها إلى المكلا وبعد ذلك إلى جيبوتي.
اشترى جنيد باوزير دكان ابن مهري بما فيه من محتويات وأوزان وغيرها بمئات الشلنات فقط، ويقع الدكان في نفس الشارع الذي يقع فيه دكان ابن أخيه أحمد بن عبدالله باوزير البنه، واشتغل في الدكان الجديد أحمد باحارثة من مدودة، واستأجر جنيد المنزل الذي يعلو الدكان من الشيخ علي بن سعيد بن ضبعان رحمه الله.
تفرغ الشاب جنيد للتنقل مابين أسواق ممباسا وارتفع منسوب شرائه من البضائع من الفواكه إلى الزبدة الكينية والسمن الكيني ويشحنها على بواخر ممتازة تضمن سلامة وصول البضائع إلى مينائي عدن والمكلا ويضمن اختصار الزمن وهي من عوامل ازدهار العمل التجاري.
**جنيد في عدن وهاجسه الخزن**
وصل الشاب جنيد من ممباسا إلى عدن واستأجر مخزنًا للبضائع في معلا دكة - عدن لخزن البضائع القادمة من كينيا ومخزنا آخر للبضائع التي كان يستوردها من الخارج مثل الأرز والحبوب، وعلم بأن ابن خالته المرحوم سالم سعيد باوزير كان موجودا في عدن ويعمل مع الحاج عبده علي (أبو الجلود) وضمه إلى فريق عمله، وارتبط الشيخ جنيد بعلاقات واسعة وحميمية، ومن أصدقائه الشيخ سالمين باسنيد والشيخ سالم عمر باعبيد والشيخ عبدالله عوض باعبيد والشيخ صالح الجرو.
هكذا نشط الشاب جنيد باوزير في تجارة التصدير و الاستيراد يساعده و يعاونه الشاب محمد صالح باوزير.
الشيخ جنيد.. في كل وادٍ دار
عرف عن الشيخ جنيد باوزير تجارته المزدهرة في التصدير والاستيراد إلا أنه بنى في كل وادٍ داراً، فله عقارات في العاصمة نيروبي وفي ميناء ممباسا وفي المكلا ومدن أخرى في حضرموت وفي عدن وتعز والحديدة، واشترى شقتين في هارلي في العاصمة البريطانية، لأن نجليه سعيد ومحمد تخرجا في جامعات بريطانية.
وفي أندونيسيا اشترى له داراً جميلة واشترى لإخوانه الثلاثة بيوتًا ثلاثة وخص أخاه علي ببيت أفضل تقديرًا منه عندما واساه بمائة روبية وردها أضعافا مضاعفة، أما شقيقاه أحمد ومحمد سعيد باوزير فقد سكنا في بيتين أقل فخامة من الأخ الأكبر، ولا غرابة في ذلك فقد مضى على رؤيته لإخوانه الثلاثة حوالي (40 عامًا).
أما في عدن فقد اتسعت دائرة تجارته العقارية في المعلا وكريتر (ومن لا يعرف عمارة كينيا بلازا في الشارع الرئيسي بالمعلا) وفي خور مكسر بنى سكنين فاخرين: الدار الشرقية والدار الغربية، بالإضافة إلى مشروع (حي باوزير) الذي انتهى منه في العام 2010م.
**وماذا يقول ديكارت عدن؟
في كتاب الشيخ جنيد باوزير (محطات ومواقف) للسفير جعفر إسماعيل وآخرين شغلت الصفحات من 190 إلى 196 مداخلة أستاذنا عبده حسين أحمد عن الشيخ الجليل والذي وصفه بديكارت عدن فور قراءة مقدمة مداخلته وكيف جاء هذا التوصيف **لا أدري فقد كتب أستاذنا عبده حسين:
كلنا عندما ولدنا لم نشعر كيف ولدنا وبالطريقة التي كانت ولادتنا فيها.. كيف تعذبنا وكيف مرضنا وتألمنا، وكيف فقدنا القدرة على السمع والبصر.. وكيف أصبحنا على مسافة قريبة من الموت، فالموت هو الحقيقة الوحيدة التي يعرفها الإنسان.
كتب أستاذنا عبده حسين عن قيم الشيخ جنيد التي أسهمت في توسيع دائرة ثروته المنقولة وغير المنقولة، ومنها أن من يساعد فقيرًا أو محتاجًا أو مريضًا يضاعف الله له هذا العطاء في ماله ورزقه وصحته.
ثم تطرق الأستاذ عبده حسين إلى الكرم الحاتمي للشيخ الجليل مع أعضاء البعثة التعليمية لليمن الديمقراطية في ممباسا في بداية الثمانينات من القرن الماضي عندما وصل الأستاذ عبده مع الأستاذ عبدالله شرف سعيد ـ رحمه الله ـ إلى نيروبي واستقبلهما هناك القائم بالأعمال الشهيد مصطفى مسرج واستضافهما أسبوعًا كاملا في منزله، وانتقلا بعد ذلك إلى ممباسا وقام الشيخ الجليل بواجبه على أكمل وجه لمدة ستة اشهر دون أن يكلف الحكومة في عدن شلنًا واحدًا.
وبحسب الأستاذ عبده فإن الشيخ الجليل كان يرى كل شيء بعقله لا بعاطفته، وكان يخزن معلوماته وأرقامه في عقله، وهو شبيه (أي عقله) بأرقى جهاز كمبيوتر، فهو يجمع ويطرح ويضرب ويقسم دون اللجوء إلى الآلة الحاسبة، ولا حاجة للدفاتر عنده، وبعد أن يحلل ويفصل ويعلل ينام راضيًا مطمئنًا.
أما أحمد فضل يماني فقد كتب عن الأرض الزراعية التي اشتراها في لحج قرب بستان الحسيني والفيلا التي خططت لها ابنته المهندسة. وتحدث اليماني عن ارتياح الرئيس سالمين للخدمات التي قدمها هذا الشيخ الجليل عند استيراد الأبقار من كينيا إلى مزرعة الأبقار في جعولة بلحج.
أما الدكتور فتح محمد عبد الرحمن إمام وخطيب مسجد (عائشة) بخور مكسر فكتب عن أعمال الخير التي كان يقدمها هذا الشيخ الجليل.
**الشيخ جنيد يرد الجميل للشيخ النقيب:
في العام 1952م ـ كما أسلفنا ـ أقام الشاب جنيد باوزير ليلة واحدة في منزل الشيخ صالح النقيب، وكان الشيخ النقيب يشار إليه بالبنان، لكنها المقادير التي حلت بالصومال عام 1990م وما دار فيها من حروب طاحنة أتت على الأخضر واليابس، ونكب الشيخ النقيب في ماله.
أرسل الشيخ جنيد باوزير بطائرة خاصة تقله إلى ممباسا، قالوا له: الشيخ جنيد هو الذي أرسلها.. الشيخ النقيب أفاد بأنه لا يعرفه وفعلا هو لا يعرفه لأنها ليلة واحدة وكان صغيرا. قال الشيخ النقيب: لقد بعثكم الله سبحانه وتعالى يا آل باوزير لإغاثتنا.
**الشيخ جنيد باوزير في موكب الخالدين:
انتقل الشيخ جنيد باوزير إلى رحمته تعالى في تمام الساعة الثالثة والنصف من مساء الأحد 21 أبريل 2013م مخلفًا وراءه سيرة كفاحية عطرة ووفاء لا نظير له وأعمال بر قدمها ولم تعلم شماله ما أنفقته يمينه، كما خلف ابنين هما: سعيد ومحمد، وخمس بنات إحداهن طبيبة والأخرى مهندسة.
تغمد الله الشيخ جنيد باوزير بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وأسأله تعالى أن يكون أولاده خير خلف لخير سلف لأن والدهم لم يكن مقصرًا معهم ومع أرحامه وأقربائه وأصدقائه ومع المحتاجين والمرضى والمنكوبين، ولم تعلم شماله ما أنفقته يمينه.. هذا ما عرفته من شهادات الكثيرين والكثيرين أمثال: الأستاذين عبده حسين أحمد وعبدالله شرف سعيد رحمه الله، والسفير جعفر إسماعيل والدبلوماسي حسين أحمد الفقير، والأخيران عملا في سفارة اليمن الديمقراطية في نيروبي وقنصليتها في ممباسا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى