تعز .. عاصمة الثقافة وقلب المدنية تعاني الإهمال

> استطلاع/ محمد العزعزي

> الحالمة تعز، محافظة بحاجة ماسة لإرساء مداميكها وإعادة تأطير الفاعلية لكي تأخذ مكانتها الطبيعية، وتستعيد دورها الذي تم تغييبه قسراً في الثلاثة العقود الماضية، مع ضرورة تفعيل النشاط البنيوي والبناء المؤسسي في الإدارة وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني، وكذا فتح المراكز الثقافية ودور النشر والطباعة، وتشجيع أرباب الفكر والقلم وبناء المسرح وعودة دور السينما من جديد لتفتح أبوابها أمام الجمهور، بالإضافة إلى تشجيع طباعة الكتب وبيعها بسعر تشجيعي للقراء وعشاق الفكر والتنوير.
عرف عن أبناء هذه المدينة الثقافة والعلم، وذلك لكثرة النخبة المثقفة والمتنورة فيها، ولهذا استحقت بجدارة أن تكون عاصمة اليمن الثقافية. عبدالعزيز علوان، أستاذ جامعي، تحدث عن هذه المدينة وما اتسمت به من ثقافة بالقول: “تعز هي الفضاء الذي لا ينقصه الاتساع، والنور الذي يتكامل منه القمر، والصحو الذي يبدأ به الفجر، والجمال المنسكب من أعالي صبر، وهي القلب الذي تتواصل شرايينه وأوردته إلى كل أجزاء الجسد اليمني وأطرافه”.
وأضاف: “ تعز لها من عبق التاريخ رائحة البن، ومن أعماق البحر قوافي الشعر، رست قبل بدء الكلام، لها فضول الأغاني وملاحم النشيد، وبها من تليم الحب سبول العناق، لا ينقصها شيء سواها، أعطت أكثر مما أخذت، وهي تعز التي نشهدها الآن يسكنها الظمأ المر، يمزق قلبها الرصاص إلى شارعين من الهذيان”.
واستطرد حديثه عن تعز بقراءة قصيدة عنها قال صاحبها في وصف هذه المدينة في أبيات شعرية قال: “لكأنها هي من تجود وتنطفئ.. فالريح شال فضائها.. والسحب أجنحة الخطى.. هي التليد من الأغاني والنشيد.. وهي الصحافة والكتابة والكتاب.. هي النضال ببدئه ومآله.. هي الخطابة والإجابة والسؤال.. من ذا يسامر نجمها سوى صبر.. ومن ذا يوقظ الفجر الضحوك بثغرها غير المآذن والأذان.. تعز الفتح المبين بأفقنا.. منها عبر الرفاق إلى الرفاق.. وأتى ضحاها النيل في شموخ جماله.. ومشى برصيفها اليومي دجلة والفرات”.

وأضاف: “ تعز ( ابن علوان) و(الغصن النضير) فؤادها، تعز (الصريمي) و(الفتيح)، تعز (الفضول) و(أيوب) الذي لم يرتو من (غاديات) سمائها، تعز (الرهينة) والرهان، وهي القناعة والرضا، هي المحبة والوداد حبيبها، تعز التي (كانت جملية) لم تزل تفاؤل”.
**رصيد ثقافي وإرث تاريخي**
أما عبدالعزيز غالب صينة فقال: “تعز تمتلك رصيدًا ثقافيا عميقًا وإرثا تاريخيا لا يستهان به بحكم جغرافية المكان الذي يربط بين الشمال والجنوب وانفتاحها على البحر، فضلاً عن عبقرية المكان وتاريخه العميق الذي يزخر بالعطاء الثقافي الذي تُعد إحدى مفرداته تلك الحركة العلمية والثقافية وفي العصور المختلفة، لذا لا نستغرب أن تنهض تعز من جديد لتأخذ دورها المناط بها في العطاء المتجدد في كل مناحي الحياة لكي تحظى بمكانة الريادة من جديد”.
**مخطط طمس الهوية**

عبدالسميع محمد قال: “أقيم في العام المنصرم فعالية مهرجان الفضول الثقافي في مدينة التربة بتعز حمل دلالات ليس لتعز فحسب بل لكل اليمن باعتبار الفضول وإنتاجه الفكري جامعا وطنيا”، وتساءل: “هل كان الناس سيجرؤون على إقامتها قبل اندلاع الثورة السلمية؟ وهل كان بإمكان منظموها أن يفلتوا من بطش القبضة الحديدية الصدئة لثالوث الفاشية الحاكم في صنعاء؟”.
وأضاف: “تعرضت تعز وأبناؤها لاضطهاد عنصري مقيت امتد لعقود من الهيمنة والبطش والتدمير الممنهج، واتصال مباشر بمخطط طمس الهوية.. لا تحنوا هاماتكم مجددا للعبودية والاستبداد مهما كانت التحديات والمصاعب لاستكمال مشوار الخلاص والحرية”.
**الهوية الثقافية**
بدورها قالت ميادة محمد أحمد عثمان: “تعز لها هوية ثقافية عتيقة، وهي حالة تعبيرية تصدر عن جماعة يربطها عامل الانتماء والثقافة المشتركة، وتتجلى في مجموعة خصائص لجماعة بشرية تربط بينهم أواصر التاريخ المشترك، والعادات والتقاليد، من خلال الخبرات المباشرة والسلوك العفوي وتتجلى في القدرة الفكرية والثقافية وسلوكيات تفسر الواقع ضمن المعطيات التأويلية للجماعة”.
**هوية تعز الفنية**

عبدالله محمد علي فرحان الشرعبي تحدث لـ«الأيام» عن الإرث الثقافي لهذه المدينة بالقول: “تحتل مدينة تعز مراتب ثقافية وفكرية وفنية متقدمة تاريخيا، واشتهرت بها منذ قرون عديدة، وتلونت بحسب الصبغات الفكرية والدينية المتفاوتة من حقبة زمنية إلى أخرى كمدارس الرسوليين، والأيوبيين، والفاطميين، من مدارس الأشرفية إلى ابن علوان وغيرها، وما المآثر الفكرية والفنية المتناثرة في بقاعها إلا خير شاهد على ذلك بل إن تعز مرجعية فكرية تجاوزت في فكرها الثقافي المعتقد الديني الإسلامي إلى معتقد الديانة اليهودية، حيث يحتل فكر الشبزي وثقافته المنهجية في علوم الديانة اليهودية واحدا من أهم المرجعيات الفكرية اليهودية حتى الآن.. وكما هو معروف تاريخياً بأن النهضة الفكرية والثقافية لا تكتمل إذا لم ترافقها نهضة فنية تتغير وتتشكل بفعل التأثير الفكري والثقافي وترسخ هذا المفهوم نموذجا تاريخياً في ثقافة وفكر مدينة تعز التي كانت ومازالت متميزة بطابعها الفني التاريخي، حيث اتسمت ثقافة تعز بالسمات الفنية المتميزة مهنيا وحرفيا وغناء”.
وأضاف بالقول: “لقد تميزت مدينة تعز بالفن المعماري في قلاعها وقصورها وأسوار مدنها المتميزة هندسيا وتشكيليا.. كما تميزت في حرفها الفنية اليدوية في الأواني ومستلزمات الحياة والتزيين.. بل وذهبت إلى أبعد من ذلك في فنونها الغنائية وأهازيجها الشعبية المتسمة بطابعها التعزي المتميز شعراً ولحناً وطرباً حتى وصلت ثقافتها الشعبية غنائيا إلى مربعات جغرافية أكثر اتساعاً في المحيط الوطني والإقليمي وربما البعض منها تجاوز إلى المحيط العالمي، كتمسك بعض الجاليات اليهودية المهاجرة من اليمن 1948م بطابعها الفني الشعبي التعزي لتمارسه لحناً راقياً في محافلها العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية واشتهرت في هذا المنوال أسماء فنية يهودية في سماء فنون أمريكا”.
وأضاف أيضا: “إن ما تتميز به تعز في الفن هو الحفاظ على طابعها التعزي الخاص وتمثلت تلك السمات الفنية ذات الطابع التعزي المتميز في الصور التراثية الفنية الرائعة للمرأة التعزية المتألقة بمظهرها الشعبي المتميز في الزي الشعبي المشهور بالزي الصبري.. وكذلك نجد الحال نفسه في القصيدة الشعبية واللحن والعزف والأداء الغنائي ذي الطابع التعزي المتميز كقصائد الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان وغناء الفنان أيوب طارش، وعبدالباسط عبسي، والفنانة منى علي.. واستخدام اللحن المتناسق كلياً مع المصطلحات الشعبية التعزية، مما يجعل لها رونقا موسيقيا خاصا بها وتشكيل لوحة فنية فائقة الروعة والجمال، إضافة إلى قصائد المديح الصوفية ومنشدي المحافل والمآتم والمناسبات العامة التي تتربع أهم مراسيم العديد من المناسبات في النشيد والمديح الفردي والجماعي، ناهيك عن أهازيج الزراعة والحصاد التي لها دلالات واضحة على نوع المهنة المستخدمة فيها والتي تتنوع في الأداء من مهنة إلى أخرى سواء في السقي والغرس والحصاد والرعي، حيث يتغنى بها المزارع التعزي ويطرب لها السامع”.
**القلم أقوى السلاح**

من جهتها تحدثت اعتدال محمد عثمان العزعزي في هذا الموضوع بالقول: “تعز أنجبت كما هائلا من الأدباء والمفكرين والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعة والتربويين والإعلاميين وغيرهم الكثير في مختلف المجالات، فما من مجال إلا ولأبناء تعز فيه الدور البارز بالنهوض به، لقد شكلوا رافداً مهماً من روافد التنمية في البلاد وحركوا عجلة التنمية إلى الأمام في شتى المجالات، وحققوا نجاحات وإنجازات كبيرة ليس على مستوى المحافظة فحسب، وإنما على البلاد بشكل عام فلا يمكن للسلاح أن يحل فيها محل القلم أو ثقافة الحقد والكراهية أن تطغى على ثقافة التصالح والتسامح مهما كانت المؤامرات وسينتصر القلم على السيف”.
**خصوصية تعز**
نزار العبادي بدوره يرى أن الهوية الثقافية التي اكتسبتها تعز جعلتها رقماً صعباً في الحسابات السياسية لكل الدول المتتابعة في اليمن، وذلك لأن ارتفاع الوعي الشعبي يجعلها عصية على القوى السياسية التي عادة ما تخطب ودّ الجماهير بدغدغة عواطفها بالشعارات والخطب الحماسية والتي لم تكن تجد لها سوقاً في تعز المحصنة بأعداد هائلة من العلماء والمثقفين والقادة العسكريين ورجال الأعمال الذين ظلوا يمثلون صمام أمان هذه المحافظة”.
**عبدالغني مطهر مات فقيرا**
أما محمد أحمد العموق فقد قال: “إذا تحدثنا عن رموز تعز سيطول الكلام ولا مجال لذكرهم هنا، ولكن أكتفي بواحد من الرموز وهو عبدالغني مطهر، فهذا الرجل أشهر من نار على علم، رحمه اللَّه، المناضل والسياسي وعضو مجلس قيادة ثورة 26 سبتمبر، وزير التجارة، بعدها عين محافظاً لمحافظة تعز”.

وأضاف: “هذا الرجل كان يعمل بالتجارة، ومناضلاً في الصفوف الأولى لخلايا الثورة في تعز، وعمل كهمزة وصل بين تنظيم الضباط الأحرار، والزعيم جمال عبدالناصر صرف أمواله على الثورة، ومد يد العون والمساعدة للمحتاجين من الأحرار الثوار بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، حسب على المشير عبداللَّه السلال، فاعتقل في صنعاء لفترة وجيزة ثم نفي إلى القاهرة ليعيش فيها سنوات كثيرة وعاد ليعيش في تعز حتى وافته المنية وهو لا يملك قيمة الدواء وتنكرت له صنعاء نتيجة لدوره النضالي فمات وحيداً وفقيرا”.
**عاصمة التغيير**
يوسف إبراهيم الغوري قال: “تعز عاصمة التغيير وروح الثورة في التحولات الكبرى التي شهدتها اليمن.. تعز عبدالله عبد الوهاب نعمان، وأيوب طارش، وعيسى محمد سيف وأحمد طربوش، ومحمد عبد الولي وهاشم علي، وعبدالفتاح إسماعيل، وعبدالله عبدالعالم.. تعز قبلة العشاق والثوار وتضم قلعة القاهرة ووادي الضباب وشجرة الغريب، وباب موسى والمظفر، والشماسي، تعز صانعة المفكرين والثوريين والمثقفين وأمناء الأحزاب السياسية وقادة منظمات المجتمع اليمني، تعز المخزون الإستراتيجي لليمن للقوى العاملة والمهنية والمفكرين والمبدعين والكتاب والشعراء، وهي الصورة الحضارية لليمن التي رفدت كل محافظات الوطن بالموظفين وعمال البناء المهرة، فشاركوا في التنمية والتجارة في الداخل والخارج، وباختصار هي حضارة ومنارة لا يمكن تجاوزها”.
**خاتمة**
تحتاج تعز إلى إجراءات عملية وإصلاحات هيكلية في البنية التحتية، لما أفسده الدهر والإهمال المتعمد، الذي عصف بهذه المحافظة التي أخذت على عاتقها مسؤولية التنوير والتحرير الفكري والسياسي والتنويري عبر العصور منذ فترة ما قبل الإسلام وما بعده وتأثيرها الإيجابي على الوطن والإقليم، وعلى أبنائها استعادة دورها الطبيعي والطليعي في الهوية التي سلبها النظام البائد، لأنها إذا نطقت سمع العالم نظراً لخصوصيتها وتأثيرها الإيجابي في الفكر والتنوير والتميز.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى