أبو نواس واختلاف النقاد في شعوبيته (2 - 2)

> حافظ قاسم صالح

> وأما الدكتور عمر فروخ فيرى أن أبا نواس، وإن كان ذا ميل إلى الفرس عن العرب، فإن ذلك “ليس بمعنى الشعوبية العنصرية، فهذه لم تكن من هم أبي نواس في شيء، بل تعني الحياة الفارسية المترفة بالإضافة إلى حياة الأعراب الجافية، وقد آثر تلك الحياة لما فيها من ترف ولهو على حياة الأعراب لما فيها من شظف ومشقة وحرمان”، وإلى هذا يشير أبو نواس في مثل قوله:
ولا تأخذ عن الأعراب لهوا
ولا عيشا فعيشهمُ جديبُ
دع الألبان يشربها رجال
رقيق العيش بينهم غريب
فأطيب منه صافية شمول
يطوف بكأسها ساقٍ أديب
إننا نرى أن كل هم أبي نواس هو التمتع بالحياة والانغماس في شهواتها، وهو إنما يعبر بذلك عن طبيعة الحياة وما يعتمل فيها؛ لذلك فإن مذهبه مذهب فني تجديدي يعبر فيه عن الحياة التي كانت تعج بها الحياة العباسية وما فيها من ترف ومجون واختلاط في شئون الحياة، وإننا اليوم نرى التأثر الكبير الذي تحدثه وسائل التقنيات الحديثة في أبناء الأمة وينجر كثير منهم إلى التقليد الأعمى للغرب في أنماط من الحياة تكاد تكون منبوذة في تقاليدنا وأن هذا التأثر بسبب هذه الثقافة الوافدة، ونرى كثيرًا من شباب وشابات البلاد العربية إنما يأخذون ثقافتهم من تقنيات الصورة (الأفلام، والأغاني، والمسلسلات وخاصة التركية) ونراهم يلهثون في تقليدها ومتابعتها، فانعكس كل ذلك على حياة المجتمع بصور مختلفة، نقول: “إن التأثر هذا لم يكن إلا عن طريق وسائط الاتصال عن بعد، فكيف إذا وصل الأمر إلى درجة الاختلاط والامتزاج المباشر، كما حصل في العصر العباسي، لا ريب أن تضج الحياة ويكون التأثر لا حدود له، فكيف إذن نلوم أبا نواس، الذي اندفع معبرًا بصدق وتلقائية، عن تلك الحياة الصاخبة التي انغمس فيها كثير من الناس في ذلك العصر حتى الخلفاء، مع أننا نلومه في بعض الشطحات التي يتهكم فيها بالعرب، فأبو نواس (رأى الشعراء يصفون حياة ليست حياتهم، ولا يأملون أن يحيوها لأنها حياة ساذجة لا تناسب واقع الحضارة العباسية ومن ثم دعاهم إلى نبذ ما يتعلق بها من نوى وأطلال وطلب منهم أن ينزلوا بالشعر إلى الحياة الجديدة)”.
ويعد الناقد حسين عطوان من أكثر النقاد صراحة في الدفاع عن أبي نواس ومذهبه التجديدي، حين يقول: “وفي رأينا أن أبا نواس لم ينزع مزعًا شعوبيًا في دعوته وثورته، إنما كان يهدف إلى الصدق الفني”، ويؤكد الفكرة نفسها في موضع آخر من كتابه فيقول معلقًا على شعر للشاعر: “ومعنى ذلك أن دعوته كانت ثورة حضارية خالصة لا تشوبها الشعوبية وغير الشعوبية”.
ومما ينبغي أن يُشار إليه في هذا المقام أنه كان للحياة السياسية وما يعتمل فيها من صراعات تأثير في الحياة الفكرية والأدبية فانعكس الصراع السياسي على الفكر والأدب، فالشاعر والأديب في أي عصر لا يكون بعيدًا عن لهيب الصراعات، بل يكون أداة فاعلة ومؤثرة فيها، والشعر في ذلك العصر كان الجهاز الإعلامي والدعائي الذي يبث ويتبنى السياسات، ومن هنا كان لموقف الشاعر في صف من الصفوف له ثمن كبير، وصل الأمر إلى أن دفع بعضهم حياته ثمنا لموقف أو رأي أو قول.
والشاعر أبو نواس عاش في معمعة الصراع على السلطة بين ابني الرشيد الأمين والمأمون، ولزم صف الأمين،وقد كان بدهيًا أن يدفع ثمن ذلك الموقف، فقد تعرض إلى العديد من حملات التشهير والتشكيك، وقد تعددت غايات هذه الحملات، وكثرت مراميها، وسارت في أكثر من اتجاه، وقد حددت الدكتورة أحلام الزعيم اتجاهات أربعة لهذه الحملات:
**الاتجاه الأول**
قاده لفيف من الشعراء المعادين له، والذين كان لهم موقفهم الصريح المؤيد للحكم العباسي، والمعرض بآل البيت، ذلك المنحى الذي رفضه أبو نواس، وكان سببًا من أسباب الطعن والتعريض به والتحامل عليه، وقد سعى هؤلاء إلى الانتقاص من مكانته والنيل منه.
**الاتجاه الثاني**
قاده لفيف من الذين لهم وضعهم الطبقي الاجتماعي إلى جانب ما يتمتعون به من نفوذ سياسي، وهؤلاء كان لهم منحيان في الحياة، منحى رسمي، ومنحى عابث ماجن يمارسونه في خلواتهم، وهؤلاء كانوا إذا ما جمعتهم اللحظات مع الغلمان والجواري وراحت قريحتهم تجود بشعر مسف فاحش نسبوه إلى أبي نواس خوفًا من سيرورته على ألسنتهم فينتقص من قدرهم.
**الاتجاه الثالث**
يتعلق بشخصية أبي نواس، فقد كان دمثًا لطيفًا جعل الكثيرين ينسبون إليه من النوادر والحكايات في السلوك الماجن والشعر المبتذل ما لم يمت له بصلة.
**الاتجاه الرابع**
ويتعلق باتجاهه الفكري والعقدي، الذي كان يميل فيه إلى الرجاء والتشيع، كما يتعلق بمذهبه الجديد في الشعر الذي يتجسد في ثورته على منهج القصيدة العام وبنائها الفني، وموقف الشعراء المتزمتين من هذا لاتجاه،وهؤلاء الذين هاجمهم أبو نواس وسخر منهم، وهم الذين قادوا حملة مضادة ضده وضد مذهبه الشعري الجديد، وأن موقف العداء الذي اتخذه التقليديون من مذهبه الشعري قد عرضه لحملة من التشهير والذم، من هنا تتضح لنا آفاق الخصومات التي استعرت بينه وبين المتعصبين للقديم.
ومن كل هذا نلاحظ أن المذهب الشعري التجديدي للشاعر أبي نواس وأفكاره واتجاهه السياسي والخصومات الشخصية والمنافسات الفنية مع غيره من الشعراء، كل ذلك كثّر من أعدائه، فكثرت حملات التشهير ضده، وألصقوا به التهم، ومنها تهمة الشعوبية، ووصلت إلينا هذه الحملات التشهيرية، وبنى عليها كثير من المحدثين آراءهم في الشاعر وشعره.
وبعد وقوفنا على جانب من شخصية الشاعر أبي نواس رأينا التباين والاختلاف بين النقاد في تقييم الشاعر وشعره، إلا أنه ومهما تباينت الآراء حول الشاعر وشعره وموقفه الفكري والفني والسياسي وتطلعه إلى الحياة، فإن الباحثين جميعهم يشهدون لأبي نواس بالعبقرية والإبداع الفني، وإن اختلفوا في دوافعه للإبداع؛ إذ إن المهم هو الإبداع الفني وليس دوافعه، فكان بحق من أبرز الأعلام الكبار في الشعر العربي والثقافة العربية، وتبقى شخصية هذا الشاعر وشعره مجالا خصبا أمام الدراسات الأكاديمية المعمقة بعيدا عن الأفكار الجاهزة وغير الموضوعية.
* محاضر في كلية التربية ـ جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى