نهاية حب ديك الجن

> محمد حسين الدَبَاء

> بعد أن أبهر ديك الجن الحسناء ورد بنت الناعمة بشاعريته تزوجا، وكانت حياتهما عسلا وشهدا وحبا ووفاء، وصديقه بكر بن رستم أكثر منهما سعادة من فرط حبه وإخلاصه لديك الجن، فهو رفيق صباه ودربه، وكذا ديك الجن كان يثق بصديقه ويسر له بكل صغيرة وكبيرة.
لم يعجب هذا الوضع شيطان اسمه (أبو الطيب) ابن عم ديك الجن، فبدأ يتردد على بيته ويتودد من ورد في غياب زوجها ديك الجن بحجة سؤالها إن كانت تحتاج شيئًا، وهي تصده وتصون غياب ديك الجن، فبدأ الشيطان يخيط في رأس أبي الطيب مكيدة لينتقم بها من ابن عمه، وينفث سموم حقده، خاصة وأنه كان يخاف أن تذيع ورد سرّ مراوداته لها ومحاولاته اليائسة للنيل منها، فيفتضح أمره.
وكان ديك الجن متلافًا للمال، فقد أنفق كل ما ورث عن أبيه وجده من مال وعقار، واستدان مبلغًا من أبي الطيب ذات يوم قبل زفافه من محبوبته، فوجد أبو الطيب ضالته بهذا الأمر .. وبدأ مضايقاته لديك الجنّ بحجة المال، وحاجته له والإصرار عليه في أقرب وقت السداد، ولم تنفع توسلات ديك الجن معه، فقرر ديك الجن السفر إلى (سلمية) إحدى مناطق الشام لمقابلة الأمير الهاشمي فيها (أحمد بن علي) الذي كان يوده، لعله يحضر ما يسد به حاجة ابن عمه، ويقضي عنه دينه.
وأوصى ديك الجن صديقه بكر خيرًا بورد، وودعها وسار مع القافلة، ما إن تأكد أبو الطيب من مغادرة القافلة لحمص حتى ذهب بذريعة الاطمئنان عن زوجة ابن عمه إلى بيته، وعاود عليها عروضه السخية بالمال والهدايا، لكنها صدته شر صدود، وأسمعته من الكلام ما يليق بخائن مثله، وحافظت على حب الغائب الرابض في قلبها لديك الجن.
فزاد كل ذلك من قهر أبي الطيب الشيطان الذي لم يعد يفكر إلا بطريقة للانتقام من ورد ومن حبيبها .. وعلم أن القافلة في طريقها عائدة من سلمية إلى حمص، فأرسل خبرًا مفاجئًا لورد مع نفر من مقربين له أن ديك الجن تعرض في الطريق هو والقافلة لقطاع طرق وقتلوه، وأن رهطًا من المدينة ذهبوا لإحضاره للدفن، لكم كان وقع الخبر صاعقًا على روح ورد وقلبها، فلا الدمع يفيه حقه كحبيب، ولا العويل، وكي يستكمل أبو الطيب مخططه الشيطاني مع اقتراب وصول ديك الجن للحي أرسل مسرعًا في طلب بكر الذي صدق الخبر بموت صديقه وصعقته الصدمة أيضًا، لكن أبا الطيب قال له: “إن ورد في حالة من الحزن والكمد الشديدين وليس لها من شخص تثق به سواك، فأنت الصديق الوفي للمرحوم ابن عمّي، اذهب إليها وهدئ من روعها وحزنها ريثما تصل الجنازة ونتدبر الأمر”.
ذهب بكر إلى بيت صديقه، وهو لا يكاد يرى طريقه لغزارة دموعه، ووصل إلى ورد يبكي معها حينًا ويهدئ لوعتها حينًا آخر، ومع وصول ديك الجن كان أول من استقبله ابن عمه أبو الطيب، فقال له إن زوجتك لم ترع غيابك، وقد قضت كل وقت رحلتك تسامر صديقك في بيتك وتخونك معه، والأمر تفشّى في حمص وأصبح فضيحة لنا جميعًا، وإنهما الآن معًا يتجرعان الحب الحرام.
هب ديك الجن لبيته، فوجد صديقه بكر يأخذ بيدي حبيبة قلبه ورد والدموع في عينيهما، فظن أنها دموع افترق الخائنين (حبيبته وصديقه) بسبب قرب وصوله، فتدارك سيفه وهوى عليهما معًا، فقتلهما، ليسدل الستار على أكثر قصص الحب نقاءً وحسرة عبر تاريخ الشام، وجلس إلى جوارهما وهما ينزفان دمًا، وقد فارقا الحياة يبكي مرّة، ويتشفّى منهما مرة أخرى، لقد أعماه القهر والغيرة على حبيبته .. وقال أروع قصيدة عرفها الشعر العربي في رثاء الحبيب، وهو من قتلها.
وعاش ديك الجن بعد دفنهما كميت، خاصة وأن ابن عمه أبو الطيب قد دعاه بعد مدة وهو يحتضر وأسرّ له بالمكيدة، وأن صديقه لم يخنه، وحبيبته أطهر من مياه البحر، وأنه راودها عشرات المرات ولم تضعف وصدته عنها شر صدّ، فانفطر قلبه من جديد، وبدأ يخلط كأس خمره، بحفنة من تراب قبر ورد، وكأسًا أخرى بحفنة من تراب قبر بكر، ويضع كأسَ وردٍ عن يمينه، وكأس بكر عن شماله، يرتشف من الكأس اليمنى فيظنها قبلة من شفتي ورد، ثم يرتشف من الكأس اليسرى فيظنها قبلة من خد صديقه، وهو يبكي حتى نفذ جسمه وعقله، وينظر إلى قبر ورد، فيقول باكيًا:
يا طَلْعَةً طَلَعَ الحِمَامُ عَلَيها
وجَنَى لَها ثَمَرَ الرَّدَى بِيَدَيْها
رَوّيْتُ مِنْ دَمِها الثّرى ولَطَالَما
رَوَّى الهَوَى شَفَتَيَّ مِنْ شَفَتيْها
قَدْ باتَ سَيْفي في مَجَالِ وِشَاحِها
ومَدَامِعِي تَجْرِي على خَدَّيْها
فَوَحَقِّ نَعْلَيْها وما وَطِىءَ الحَصَى
شَيءٌ أَعَزّ عَلَيَّ مِنْ نَعْلَيْها
ما كانَ قَتْليِها لأَنِّي لَمْ أَكُنْ
أَبكي إذا سَقَطَ الذّبَابُ عَلَيْها
لكنْ ضَنَنْتُ على العيونِ بِحُسْنِها
وأَنِفْتُ مِنْ نَظَرِ الحَسُود إِليها
ثم ينظر إلى قبر بكر وينشد:
يا سيف إن ترم ِ الزمان بغدره
فلأنت أبدلت الوصال بهجره
قمر أنا استخرجته من دجنـة
لبليّتي وزففتـه مـن خدره
فقتلته وله على كرامة
ملء الحشا وله الفؤاد بأسره
عهدي به ميتًا كأحسن نائم ٍ
والحزن ينحر مقلتي في نحره
لو كان يدري الميْتُ ماذا بعده
بالحيّ حلّ بكى له في قبره
غصص تكاد تفيض منها نفسه
وتكاد نخرج قلبه من صدره
اقترب رحيل الشاعر بعد أن فقد كل اتصال له مع السعادة، وذَبُل رويدًا رويدًا حزنًا وكمدًا على حبيبة فؤاده، وصديقه الوفيّ، وأبلغ ما قال قبل رحيله:
بانوا فصار الجسم من بعدهم
ما تصنع الشمس له فيّا
بأي وجــهٍ أتلقـاهـمُ
إذا رأونـي بعدهـم حيّـا

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى