الإيقاعية الشعرية في ديوان (أغاني الحياة) لأبي القاسم الشابي (2 - 2)

> كوثر خليل

> **الزمن المجرد**
إن الزمن المجرد أو المعياري للكتابة الشعرية لدى الشابي هو بلا محيص زمن الطفولة، والعلاقة البدائية مع الطبيعة، هو زمن الراحة التي لا تحُدّ روح الشاعر في الواقع جسديًا كان أو موضوعيًا، هو زمن الكتابة فمجال الطفولة هو مجال الذكريات المنتقاة، والسعادة المنشودة، وهو مجال الحكي الشعري إن صحّ التعبير:
كمْ مِنْ عُهودٍ عذبةٍ
في عَدْوَةِ الوادي النَّضيرِ
فِضِّيَّةِ الأَسْحارِ مُذْهبَةِ
الأَصائِلِ والبُكورْ
كانتْ أرقّ من الزّهورِ
ومِنْ أَغاريدِ الطّيورْ
**الجنة الضائعة**
إن الشاعر يعيش هذه الصور القديمة ويتغذى بها في لحظات الألم الجسدي أو الروحي، إن الطفولة هي المرآة التي تنعكس فيها كل الصور الجميلة والآلام الخبيئة التي تشرع للنفس الحساسة الوعي العاطفي للظلم والقهر والاستغلال، وكأنها خبرات سابقة لها فالزمن المعقول والزمن المعاش لا يخضعان للمبدأ نفسه، وهذا ما يجعل لحظة الكتابة منفصلة عن كل ما عداها، خاضعة لجاذبيتها الخاصة، مغايرة في علويتها رغم الألم الذي يصاحبها.
إن الكتابة الشعرية تبدو كالحياة الحلمية التي تحتوي على تفصيلات لا واعية تجعل من تفجير البنى اللغوية أمرًا ممكنًا، ولكن الكتابة الشعرية لا تنفي وجود روح واعية وعقل مفكر يصوغ المشروع لغويًا كان حضاريًا.
إن لحظة العودة إلى عالم الطفولة أو عالم الطبيعة (الغاب) هي اللحظة الأثيرة لدى الشاعر، ولها دلالات كثيرة، فهي عودة إلى الأصل إلى وطن الروح حيث تنتفي حدود السماء و الأرض.
**الزمن المنشود**
تتنزل الصورة الشعرية ككينونة لغوية جديدة فتضيء الوعي الداخلي للشاعر من جهة، ومستقبل اللغة من جهة أخرى، فالشعر هو آلية اللغة للتجديد والتناسق الداخلي، وإذا كانت الصورة تبدو لنا وكأنها حاضرة بالقوة في وعينا وشعورنا، فذلك ينبع من أصالة روح الشاعر القادرة على إنتاج لحظة صافية تخلق الاتساق بين أعماق الإنسان.
إن عملية التخيل الشعري حين تبلغ زمنها المنشود في شعر الشابي تحول حروف اللغة إلى نوتات موسيقية تلتحم بخرير المياه وهدير الصاعقة وحفيف الأوراق ورقة انسكاب الندى على مهجة الورد في الفجر الوليد.
يتمثل الوحي في شعر أبي القاسم الشابي حين تتحد الذائقة الشعرية بالمواضيع المثيرة لها، وهي مواضيع قد تتصل بالفترة العالمية والحساسية الكونية التي جعلت (بودلير) وشعراء الرومنطقية الأوروبيين بصفة عامة ومن بعدهم شعراء المهجر ينحون منحى الحيرة الوجودية الشعرية، وما يسمى بألم العصر.
إن الزمن المنشود في الشعر ليس إلا زمن الروح المتفصّي من دائرة الساعة وعجلة الليل والنهار، إنه زمن حرّ بأشواقه، أصيل بقدمه، قوي باندفاعه الموتور نحو الأمام، وهذا ما يكفل للشعر الخلود، إن الشعر هو العالم الحقيقي للزمن، حيث الحلم والحرية، حيث تقف فوق الهوة السوداء ونملؤها معنى و جمالية.
إن الزمن المنشود بالنسبة للشابي بصفة عامة هو زمن الحقيقة، الزمن المطلق حين تتخلص الروح من صراعها الموتور مع الماضي والحاضر والمستقبل، وتعلو فوق قوانين المادة الزائلة، هو زمن تحاكي فيه اللغة آلاء السماء، وتتحلل من عِقدها الاعتباطي مع البشر فتزمجر مع الموج وتتسامى مع الجبل، وتتخلل الوريقات الصغيرة كنسمة السحَر.
هو زمن تسكر فيه روح الشاعر بالمجد فيصير كقائد الأوركسترا بالنسبة لعناصر الطبيعة ولمفردات اللغة يخضعها لسيطرته وجنونه الخلاق ويحبلها بماء شاء من موصوفات وأفكار ومعان أبكار لم يجدها شاعر قبله، إن الزمن المنشود بالنسبة للشاعر هو زمن التحرر، ولا يتم التحرر إلا بالتجاوز فتتحقق الذات على مستوى فردي (الأنا) وجمعي (النبي والشعب) وكوني (الشاعر ذاكرة الوجود)، وهذه هي وظيفة الشعر في اللغة ووظيفة الشاعر في الحضارة أنه وسيلتها الأجدر للتطور من الداخل والبقاء وفق وظائفها العضوية الأكثر حيوية.
إذا الشّعبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ
فلا بدّ أن يستجيب القدرْ
وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ:
“أَيَا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟”
أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ
وَمَنْ يَسْتَلِذُّ رُكُوبَ الخَطَر
وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَـانَ
وَيَقْنَعُ بِالعَيْشِ عَيْشِ الحَجَر
هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ، يُحِبُّ الحَيَاةَ
وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
**إرادة الحياة**
إن الفلسفات التي تناولت مفهوم الزمن وحاولت إيجاد قراءة لا زمنية له ظلت ضمن حدوده، لأن مفهوم الزمن كمفهوم الفلسفة، فالموقف المضاد للفلسفة هو بالضرورة موقف فلسفي.
هو الموتُ طيفُ الخلودِ الجميلُ
ونِصْفُ الحَيَاةِ الَّذي لا يَنُوحْ
هنالكَ خلفَ الفضاءِ البعيد
يَعيشُ المنونُ القَوِيّ الصَّبُوحْ
يَضُمّ القُلُوبَ إلى صَدْرِهِ
ليأسوَ مَا مَضَّها مِنْ جُروحْ
ويبعثَ فيها رَبيعَ الحَيَاةِ
ويُبْهِجُها بالصَّباحِ الفَرُوحْ
إلى الموت
هل قاوم الشابي غواية الموت والعدم، هل كان سبب الانخراط في هذه المخاطرة اليأس الحقيقي من الحياة في سجن جسدي (المرض) وسجن فكري (الجهل والاستعمار) سجن نفسي (آلام الشعر وآلام الكتابة) أم أن قراءته للموت كانت من قبيل الحب الأعمق للحياة؟!!.
**كوثر خليل**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى