يسرى حكاية امرأة جار عليها الزمن وأهله

> رصد/ نوارة قمندان

> أجبرت الظروف العيشية الصعبة وقساوة الزمن وأهله كثيرا من الناس لا سيما النساء إلى اللجوء إلى الشارع أو للشحاتة أو لامتهان مهنة بسيطة تعود على صاحبها وأسرته ولو بالجزء البسيط من المال الذي يمكنه من توفير أبسط بمتطلبات الحياة اليومية، فتجدهمن يتوزعن على طول الطرقات الرئيسة والفرعية وفي الشوارع وعلى الأرصفة، وتحت حرارة الشمس الحارقة، نساء في مقتبل العمر وأخرى قد أكل الدهر عليها وشرب، نساء أجبرتهن الحاجة للخروج إلى الشارع للعمل بعد أن تخلى رب الأسرة عن إعالة أبنائه أو توفاه الأجل أو لطلاق، الأمر الذي يجعل هذه المرأة في مواجهة مباشرة مع تحمل المسؤولية لتي لا مناص من الهروب عنها.
في مدينة عدن كثير من هذه الشواهد التي تعكس مدى معاناة الكثير من النسوة، فأينما يمم المرء وجهه في شوارع أو تقاطعات المدينة سيجد الكثير والكثير، نسوة شوت حرارة الشمس وجوههن، بين شحَّاتة وبائعة.
مشاهد مؤلمة تنم عن غياب العطف والرحمة والتكافل الاجتماعي فيما بين الناس، بل والأشد مرارة أن يكون الأمر متعلق بامرأة في مقتبل عمرها، وأشد إلاماً عندما تعرف قصة هذه المرأة عن كثب، حينها تتكشف لك مدى المعاناة التي يقاسيها البعض ويكتوي بجحيمها بصمت وبمرارة.
المواطنة يسرى واحدة من أولئك النسوة اللاتي جار عليهن الزمن وأهله، فتراها منذ الصبح الباكر تجول جولة كالتكس بمديرية المنصورة بعدن وتحت المساء، وبين يديها كمية من الصحف لبيعها على المارة في هذا التقاطع الرابط مابين مديريات خور مكسر والمنصورة والشيخ عثمان، في صباح كل يوم تقف يسرى - وهي امرأة في العقد الثالث من العمر - في هذه الجولة ملوِّحة بيدها لكل مار بصحف، ليس لها من طموح كبير كل ما تؤمله هو أن ترى سيارة تقف بجوارها ليطلب سائقها أو أحد فيها نسخة من هذه الصحيفة أو تلك.
هذا المشهد المتكرر أمامي يومياً أجبر فضولي الصحفي أن ألتقي بهذه المرأة والاطلاع على معاناتها عن كثب، خرجت من منزلي وكانت جولت كالتكس وجهتي حيث تلك المرأة، كان الوقت حينها ظهراً تحت حرارة الشمس التي قد توسطت كبد السماء، اقتربت منها، في البدء استبشرتْ خيراً وظنت بأني أحد زبائنها، حينها عرَّفتها بنفسي وشرعنا سوياً في سبر أغوار محيط معاناتها.
تقول يسرى والشحوب بادٍ على وجهها وبعينين غائرتين: “أسكن في البساتين مع أمي التي تعيل أبناء أخي المختفي منذ خمس سنوات، وآتي إلى هذه الجولة كل صباح لبيع الصحف، والتي تعد مصدر دخلي الوحيد الذي أعول به أطفالي”، وبمرارة تضيف: “لي خمسة أطفال جميعهم ولدوا في هذه الجولة، توفي عليّ اثنان منهم نتيجة لتدني المستوى المعيشي وعجزي عن توفير أبسط متطلباتهم، لقد أجبرتني الظروف بالعمل حتى وأنا على وشك الولادة، كما أنني أجبرت على العمل منذ اليوم الخامس من الوضع، ليس هناك من يعينني أو سيرحمني، وأنا لا أستطيع أن أشاهد أولادي وهم يبكون ويتضورون جوعاً”.
المواطنة يسرى
المواطنة يسرى

وتتابع يسرى قصتها: “كان زوجي رياض من أبناء محافظة تعز وكان من قبل لا يعارض على مجال عملي بل كان يأتي خلفي ويراقبني عن بعد في حال تعرضت للمضايقات، لقد كان لديه مؤهل مهندس معماري غير أنه عاطل عن العمل، ويرفض بيع الصحف لحيائه الشديد، ونتيجة لامتناعه عن بيع الصحف امتهنت هذه المهنة بنفسي بعد أن وفرت المبلغ ببيع دبة إسطوانة الغاز الخاصة بأمي، وذلك كان في عام 2008م، حيث كنت أخرج الساعة الخامسة فجراً مصطحبة ابنتي عهد، ذات السبع سنوات غير أنها كان ينالها التعب والإرهاق، فألحقتها بدار قطر، وظلت فيه لخمس سنوات، أما بقية إخوانها فقد كنت أضعهم عند امرأة لرعايتهم مقابل 700 ريال يومياً، لقد أصبحت أنا المسؤولة الوحيدة عن تربيتهم بعد أن طلقني والدهم وترك أبناءه”.
وتضيف “لي ما يقارب العام وأنا أطالب بورقة طلاق لكي ألزم أب أطفالي بدفع النفقات، ولكن لم أستطع مواصلة الإجراءات لانشغالي التام ببيع الصحف التي تعد هي مصدر دخلي وأطفالي، وفي حال انشغلت بهذه القضية من سيصرف على أولادي، حالياً تقوم ابنتي عهد بتربية إخوانها وراعيتهم حين أخرج أنا طالبة الرزق في الساعة السادسة صباحاً في جولة كالتكس بعد أن أكون قد قطعت مسافة نصف ساعة من منزلي سيراً على الأقدام، أعود بعدها قبيل الظهر لأخذ ابنتي عهد إلى المدرسة وأعود لها في المساء مرة أخرى”. وبمرارة تواصل سرد معاناتها: “إنها حياة متعبة، وهذه المهنة أيضاً متعبة ورزقها يوم لك ويوم عليك، كما أن معاناتنا تزداد في أيام العصيان، وكذا أيام الإجازات بشكل كبير، كما أنا ظهور التكنولوجيا وسرعة انتقال الأخبار عبر الجوال أيضاً قلل من نسبة قارئي الصحف، إنها معاناة يومية غير أنها تظل أفضل من مهنتي السابقة حيث كنت أعمل ببيع الملابس (جلابيات) متنقلة ما بين لحج وصبر بحثا عن الرزق، وهي مهنة متعبة كثيراً، كما أن لها مواسم للبيع فقط، وليست مربحة، ففي بعض الأحيان لا أستفيد سوى مئتي ريال في اليوم بأكمله”.
يسرى أيضاً لها حلمها في الحياة تقول: “في الماضي كانت أمنيتي تقتصر على إنشاء مكتبة، والحمد لله امتلكتها اليوم بعد أن تحصلت على دعم من تاجر سعودي، ولكن لعدم امتلاكي رأس المال قمت بتأجيرها مقابل مبلغ أتحصل عليه شهرياً وأتقاضى منها مبلغا كل شهر يعيلني وأطفالي، وبالرغم من أنني امتلكت ترخيصا إلا أنني مازلت أدفع للحكومة سبعة آلاف ريال قيمة الإيجار شهرياً، أما اليوم فحلمي هو تعليم أبنائي وضمان مستقبل زاهر لهم”.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى